يُتحدث عن إيران الآن وبشكل واسع أنها “قوة عظمى إقليمية”. وهذا الوضع مدين كثيراً لـ “عملية قانون” سمّاه (مايكل أكزورثي) في كتابه “القانون غير مقصود النتائج” مع أنه في مثل هذه الحال “مُتوقّع”؛ أي الإزالة الأميركية لاثنين من جيرانها المعادين لها، وهما نظاما الرئيس السابق (صدام حسين)، وطالبان في أفغانستان.
إن النفوذ الإيراني في أوساط الميليشيات الشيعية في العراق، وتأثيرها في سوريا، ونفوذها في حزب الله بلبنان، وفي تنظيمات حماس بغزة، ومستويات القلق العالية من البرنامج النووي، يعني –كما يقول البروفيسور ديفيد مورغان المحلل السياسي في صحيفة التايمز البريطانية- أن فهم “بلاد فارس” وشعبها، مسألة أكبر من الاهتمام الأكاديمي. ذلك يعني المحاولة لفهم التاريخ الذي يدركه الإيرانيون، كامتداد مستمر يعود 2,500 سنة.
ويقول (مورغان) أستاذ التاريخ في جامعة ويسكنسون-مديسون، مؤلف كتاب “امبراطورية العقل: تاريخ إيران”: في نقطة منتصف الطريق لتاريخ إيران حسب رواية (أكزورثي) وصل الى القرن الثامن عشر؛ أي أنه عالج 22 قرناً، وترك 3 قرون للنصف الثاني من الكتاب. وهذا النقص في التوازن يعني أن “امبراطورية العقل” ليس كتاباً أكاديمياً مثالياً. وأن المرء لا يدرسه لمتابعة تفاصيل الوقائع التي جرت خلال المدد السلجوقية والمنغولية. إنما هو للقارئ العام الذي يريد أن يفهم إيران.
إن الكاتب البروفيسور (أكزورثي) يدمج فيه خلاصة المعرفة بالأحداث السياسية لتلك القرون الطويلة مع تحليل للأسباب التي جعلت الثقافة الفارسية متميزة، وعلى سبيل المثال: أهمية النظرة الصوفية الى الإسلام، أو الدور الذي لعبه الشعر في الثقافة. وبعض هذا الشعر له تأثير خارج الحدود الإيرانية.
وإذ يشير (أكزورثي) الى الشاعر الفارسي (جلال الدين الرومي) الذي يعد الآن الأكثر رواجاً في شعره المترجم الى الإنكليزية والمنشور في الولايات المتحدة، يتحدث عن المدة بين الفتح العربي في القرن السابع الميلادي، وسيطرة الصفويين في بداية القرن السادس عشر، ملقياً الضوء على الأحداث لكن بكثير من التفصيل على “الشعراء العظام” الذين برزوا في تلك المدد.
إن هذا الشيء مهم –كما يقول البروفيسور مورغان- إذا ما أراد المرء أن يعرف كيف “تشتغل” إيران!. وكيف يفهم عالم “الملالي” و يعرف الكثير عن الثقافة الإيرانية. يقول المؤلف “إن الشعر الفارسي جاء ليكون “العباءة العاطفية” التي تثير الكثير من الغموض، والتي تشكل قلب الثقافة الإيرانية. وما يعبر عنه الشعر الفارسي لم يكن “لغزاً قابلاً للحل” ولكن خُلق ليكون “لغزاً مستحيل الحل”!.
ذلك الغموض –كما يوضح مورغان- يعبّر عن نفسه بأشكال متعددة. وهو باستمرار يثير الاستياء لدى السياسيين الغربيين، كلما حاولوا فهم “طرق العمل الغامضة للنظام الإيراني”. وعنوان كتاب (أكزورثي) ربما يعرض تلميحاً مساعداً: فإيران عنده “امبراطورية العقل” وهويتها “التفريس” وهي ذات “جوهر ثقافي” أكثر منه جغرافي أو سياسي. بمعنى إلغاء أو تغييب عقل الآخر!.
إن الجزء الأكثر تأثيراً في كتاب (أكزورثي) عن التاريخ الإيراني، هو بلا شك تلك الفصول التي تتحدث عن إيران في العصر الحديث. ويقول (مورغان) إن الكاتب يخبرنا عن الكثير الذي يستحق أن يُعرف بشأن المدد المبكرة؛ عن الثورات الإيرانية الشعبية التي قادها رجال الدين الكرازميين ضد الحكومات الملكية الاستبدادية.
وقبل ذلك يتحدث عن الحروب الفارسية-الإغريقية التي قُدمت من وجهة نظر فارسية، بدلاً من أنْ تُقدّم من وجهة نظر “ديمقراطية ضد الأوتوقراطية” أو الحكومات المطلقة. ووجهات النظر الفارسية تلك تسرّبت الى التعليم الغربي الذي غـُرست فيه منذ زمن طويل. ويرى (مورغان) أن أي مهتم بدراسة تطور الديانة اليهودية والديانة المسيحية، سيستفيد من كتاب (أكزورثي) عن الديانتين الفارسيتين اللتين سبقتا الإسلام، المزدكية والزرادشتية.
ويتطرق المؤلف في صفحات كثيرة الى “المذهب الشيعي” بفصل يتناول فيه تاريخ الصفويين الذي يساعد كثيراً في فهم “الانقسامات المذهبية” الحديثة في العالم الإسلامي. وثمة معلومات مهمة عن فرض المذهب الشيعي على الإيرانيين من قبل الصفويين. ويعني ذلك أن معرفة التطورات الدينية في القرن الثامن عشر ضرورية لفهم جوهري للجمهورية الإسلامية الحالية.
إن المؤلف يحث على دراسة المذهب الشيعي، لاسيما في مساره فعلا سياسيا. ولهذا بدأ البروفيسور بفحص الحركات الدينية الكبيرة في جذورها في الماضي بحثاً عن المصالح والحوافز المقبولة في “عقلية الناس اليوم” وكيف عُرضت بعض الأفكار في وقتها على الشاه (اسماعيل الصفوي) الذي قبل بها وفرض بذلك التشيع على إيران.
لم يكن (أكزورثي) متحيّزاً الى جانب دون آخر، فقد كان ينتقد أو يمتدح حيث يجد الأمر يستحق. وتحدث عن أحداث القرن التاسع عشر وجزء من القرن العشرين، حيث تلوح ظلال كبيرة لروسيا وبريطانيا في التاريخ الإيراني. ومع أن المؤلف كان دبلوماسياً بريطانياً سابقاً، إلا أن ذلك لا يعني أنه يتجنب انتقاد بريطانيا.
وبريطانيا –كما يقول البروفيسور مورغان- تنتقد دائما بسبب كونها وراء الانقلاب الذي جلب (رضا شاه) الى السلطة سنة 1921. ذلك الحدث الذي لم يوضح بشكل جيد حتى الآن، لكن (أكزورثي) يؤكد أن لا وجود لدليل مقنع على “المؤامرة”. ويؤكد أن انقلاب 1921 وتأثيراته يلخصها بالوصف التالي: “جاءت نتيجة لتوافق المصالح”. ويعد ذلك الحدث واحداً من مكونات الفهم الإيراني واسع الانتشار حتى يومنا هذا، فكل شيء خاطئ يُرجعونه الى بريطانيا، وإلا فهو خطأ تسبب فيه الروس.
ويؤكد (مورغان) قوله: أنا لست متأكداً من حقيقة رفض المؤلف لفكرة النفوذ البريطاني كما تحدث عنها في وقت مبكر: “اعتباراً من سنة 1953 وما بعدها كان واضحاً للجميع أن الولايات المتحدة القوة الخارجية المسيطرة في إيران. وفي السبعينات –يقول أكزورثي- أشارت امرأة إيرانية من طهران حاصلة على شهادة عليا وقالت: طبعاً انتم البريطانيين من يقرر كل شيء يحدث هنا، فاعترضت عليها قائلاً: لم تقولين ذلك؟. ففي هذه الأيام، الولايات المتحدة الأميركية هي القوة المهيمنة في إيران!. لم يكن كلامي ليثيرها، حتى أن عينيها لم ترمشا. وقالت: ربما لكنكم أنتم البريطانيين من علم الأميركان ما يفعلونه هنا”.
ويقول (أكزورثي): إن طهران في السبعينات كانت مكاناً غريباً، ومن جانب آخر، ربما كان البريطانيون هم الذين أخبروا الأميركان ما يجب أن يفعلوه بشأن رئيس الوزراء (مصدق) بعد تأميمه الصناعة النفطية في إيران سنة 1951.
كانت مناقشة (أكزورثي) لانقلاب 1953 عادلة جداً على الرغم من أن وجهات النظر الحديثة التي تنظر الى أن إسقاط (مصدق) كانت وهي باقية حتى الآن عاملاً حاسماً في “إتلاف” العلاقات الجيدة بين إيران وبين الغرب عموماً، ليست مقنعة تماماً. وحتى مسألة إسقاط الشاه (محمد رضا بهلوي) التي تتخذ وسيلة للطعن بالأميركان وبالغرب، يحاول (أكزورثي) أن يثير حيالها فكرة أن “حكم الشاه كان خليطاً من حالات الفشل والنجاح”.
ويتحدث بتفصيل تحليلي عن حياة (آية الله الخميني) ووظيفته الدينية وشخصيته، مع أنني –يقول البروفيسور مورغان- أشك في أن صعوده في التدرج الشيعي كان مفاجئاً. أثناء رحلاته المكثفة عبر إيران في الستينات، سأل البروفيسور (آن لامبتون) الفلاحين: ((ما هي المرجعية التي يقلدونها؟. ودائماً يقولون: الخميني)).
إنّ أسباب ونتائج ثورة 1979، تُناقش في الكتاب بشكل “مشرق” حسب وصف (مورغان). يقول المؤلف: ((لم تكن ثورة 1979 ناضجة سياسياً ولم تكن في مبدئها ثورة دينية)). وثمة شاهد عيان في طهران خلال الثورة راقب جميع التظاهرات الضخمة المضادة للشاه من دون أن يرى “ملا معمما واحدا”. لكن المساهمة الدينية وقيادة (الخميني) الفعالة أكسبت العناصر المتباينة في الثورة تماسكاً وإحساساً بوحدة الهدف، ولم تكن تلك التوجهات دينية مطلقاً)).
وينصح (مورغان) سياسيي الغرب والولايات المتحدة قائلاً: إن أولئك المسؤولين عن صياغة السياسات تجاه الجمهورية الإسلامية في إيران، يجب أن يقرؤوا الفصل الأخير من كتاب (أكزورثي) الذي يحمل عنوان: “من خاتمي الى أحمدي نجاد”. إن المؤلف حسن الإطلاع، ويناقش بعقلية منفتحة قضية البرنامج النووي. إنه لا يناصر النظام، لكنه يرى أن “إعلان الزعماء الدينيين الإيرانيين ضد امتلاك أسلحة نووية، يجب أن يُصدّق” على الرغم من كل شيء، فإن شيئاً كهذا يجب أن يؤخذ على أساس الثقة. وهو يعتقد أن امتلاك إيران لـ “القابلية النووية” هو الهدف وليس “السلاح النووي”!.
ويتحدث المؤلف عن “لا شعبية” الرئيس الإيراني الحالي (أحمدي نجاد) بسبب فشله في الجانب الاقتصادي، ويقول إن ذلك واضح جداً ويلقي الضوء على “حدود قوة الرئيس”. وبعض المعلقين في الغرب، لديهم إشكالية في صعوبة فهم كيف أن القرار النهائي في إيران ليس في يد الرئيس. وبينما يُعزى الفضل الى النظام الإسلامي في تحقيق بعض الإنجازات المهمة، يُظهر المؤلف أن نتيجة واحدة لثلاثة عقود من حكم الملالي، هي أن إيران أقل “البلدان الكبيرة” دينياً في الشرق الأوسط.