عبد العزيز كحيل
عندما تستمع إلى شيخ الأزهر في التصريحات التي يدلي بها والخطب التي يلقيها في المساجد تشمئز وتتضايق وربما تبغضه، أما عندما ترى مواقفه فإنك تبغض الأزهر الذي يمثله، وما ينبغي للجامع الأزهر الذي كان شريفا أن يبغضه مسلم فقد كان على مدار عشرة قرون المرجعية العلمية العليا للمسلمين وكان رمز وحدتهم بعد سقوط الخلافة الإسلامية ويحبطه أبناء الإسلام بهالة من التبجيل والاحترام والتقدير، فهو خزان علماء الدين وحفظة القرآن الكريم والوعاظ والمرشدين، يأتيه طلبة العلم من العالم قاطبة ويجوب مندوبوه أطراف الأرض يرشدون ويعلمون ويدعون إلى الله. ويكفي _طول هذه القرون_ أن يكون المرء أزهريا هو أو أبوه أوجده ليحظى بالمحبة والتقدير، أما من يتولى مشيخة الأزهر فهو عالم عامل تقي يجمع بين الكفاءة والأمانة، يقول فيسمع صوته ويفتي فيتبنى الناس فتواه ويتخذ موقفا من الشؤون العامة فلا يجرأ أحد على اتخاذ موقف مغاير…. إنه شيخ الأزهر. !!
دام هذا الموضع مئات الأعوام حتى ضاق النظام العسكري بالمؤسسة العتيدة التي تمثل “الرجعية” و”الطقوس البالية” في حين ينادي ذلك النظام بقيم أخرى هي “التقدمية” و”العصرنة” أي العلمانية العدوانية التي تحتوي الدين ليكون خادماً مطيعا لها يبارك خياراتها ويضفي الشرعية على توجهاتها في السياسة والثقافة والتربية وغيرها، فبدأت عملية منهجية لزلزلة الجامع العتيق وذهاب هيبته وإفساده باسم إصلاح الأزهر – سنة 1961- ويمكن تلخيص هذا “الإصلاح” في أمرين:
1. القضاء على تفرد الأزهر بحيث يصبح جامعة عادية يرتاده نفس الطلبة الذين يرتادون الجامعات “المدنية” وتدرس فيه نفس المواد، فإذا ذهب تفرده ذهبت مكانته فتميزه هو مشكلة خصومه
2. تولية المشيخة بالتعيين لشخصية غير مؤثرة أو مثيرة للجدل تتصرف تصرف الموظف الحكومي، وهذا من شأنه النيل من مقام شيخ الأزهر الأدبي حتى تذهب قيمته المعنوية، وقد أفرز “الإصلاح” جملة من المشايخ الذين لعبوا الدور المرسوم فتآكلت مكانة الأزهر وتهاوت هيبته العلمية، فقد تولى مشيخته _على سبيل المثال_ شيخ متصوف كان كل همه إحياء موالد “الأقطاب والأبدال والأولياء” يطوف طوال السنة بين الأضرحة والقبور، وجاء بعده شيخ احتفت به الأوساط “الحداثية” باعتباره علمانيا ! لا يؤمن بالأصولية والتشدد. وكان أحسنهم حالاً من لا يسبح بحمد النظام القائم ويكتفي بالسكوت كأضعف الإيمان… حتى جاء الشيخ سيد طنطاوي فكان عهده مفعماً بالغرائب والعجائب كالإفتاء بحل الفوائد الربوية (رغم موقف مجمع البحوث الإسلامية النابع له) ولقاء حاخامات اليهود الأكثر تطرفا وتوحيد الأذان والإفتاء بجلد الصحفيين الذين يثيرون حالة حسني مبارك الصحية لأنهم بذلك “يرمون المحصنات ثم لم يتوبوا” !!!
وكانت الطامة في رد فعله على السخط الذي أثارته مصافحته الحميمية لشيمون بيريز، فهو لم يكتف بتبرير لقائه بذلك الإرهابي الصهيوني الملطخة يداه بدماء الفلسطينيين بل عامل منتقديه بالإهانات اللفظية ووصفهم بالتافهين واستزله الشيطان فاستخف بغزة وحصارها وآلامها وصرح أنه يجهل إن كانت محاصرة ! وذكرني هذا بجهل آخر منه لا يقل غرابة، فقد سأله الإعلاميون سنة 2007 عن سبب عدم زيارته للشيخ يوسف القرضاوي أثناء مرضه بالقاهرة فصرح أن لا علم له بالقرضاوي ومرضه وأن أحداً لم يخبره بذلك، رغم أن العالم كله تابع إصابة الشيخ يوسف في الجزائر ودخوله مستشفى بها حيث زاره فيه الرئيس الجزائري، ولما تعافى أمضى فترة بالعاصمة المصرية توافد عليه فيها العلماء والساسة والصحفيون من كل اتجاه ما عدا رموز الحزب الحاكم… وشيخ الأزهر، وصدق الشاعر:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة—وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ومافتئت جبهة علماء الأزهر تكتشف أخطاء طنطاوي وخطاياه وتدعوه إلى الإنابة وتصحيح المسار لكنه ماض في طريقه كموظف حكومي مطيع يعنيه منصبه وإرضاء من عينه فيه.
وكان آخر ما سمعت منه مباشرة ودعاني إلى كتابة هذا المقال مقابلة مع قناة البي بي سي بالعربية يوم 15-12-2008 إذ رد على سؤال الصحفي حول موقفه من المسؤولية عن الكوارث التي توالت على مصر في المدة الأخيرة كحادثة العبارة التي مات فيها المئات والانزلاق الذي أوذى بحياة مئات آخرين ونحوهما، فرد بكل برودة أن هذا قضاء وقدر أي أن السلطة الحاكمة لا تتحمل أي مسؤولية غن الإهمال واللامبالاة في
حين أن الصحفيين مهددون بالجلد ثمانين جلدة إذا كتبوا عن مرض الرئيس ! ولا شك أن من تابع هذا الحديث الصحفي وأمثاله ينفض يديه من “الإمام الأكبر “ويوشك أن ييأس من الأزهر نفسه وهذا بالضبط ما يهدف إليه النظام الحاكم الذي تعلم ألا يواجه تلك القلعة الكبيرة صراحة وإنما يحاول تخريبها من الداخل حتى يصد الناس عنها… وقد كاد أن ينجح، فنحن نرى المسلمين يعملون بفتاوى أي متعالم ويقاطعون فتاوى الأزهر لأنهم ببساطة لا يثقون فيها إذا كان من يصدرها مجرد موظف حكومي مثل سيد طنطاوي.
حين أن الصحفيين مهددون بالجلد ثمانين جلدة إذا كتبوا عن مرض الرئيس ! ولا شك أن من تابع هذا الحديث الصحفي وأمثاله ينفض يديه من “الإمام الأكبر “ويوشك أن ييأس من الأزهر نفسه وهذا بالضبط ما يهدف إليه النظام الحاكم الذي تعلم ألا يواجه تلك القلعة الكبيرة صراحة وإنما يحاول تخريبها من الداخل حتى يصد الناس عنها… وقد كاد أن ينجح، فنحن نرى المسلمين يعملون بفتاوى أي متعالم ويقاطعون فتاوى الأزهر لأنهم ببساطة لا يثقون فيها إذا كان من يصدرها مجرد موظف حكومي مثل سيد طنطاوي.
إن الأزهر الذي كان شريفا يستحق أن يعود إليه الشرف ولن يتم ذلك إلا إذا تحرر شيخة _أيا كان_ من ربقة الوظيفة وآل تعيينه إلى الانتخاب من بين كبار العلماء العاملين الدعاة الأقوياء لمواصفاته العلمية والخلقية لا لولائه للسلطة، وإذا عاد الاعتبار لمنصب شيخ الأزهر عاد للأزهر نفسه.
عبد العزيز كحيل