بقلم نقولا ناصر
كان اغتيال قوات الاحتلال الإسرائيلي للمقاوم علاء عصام أبو الرب يوم الخميس الماضي في قباطية بالضفة الغربية هو المناسبة الأحدث للطعن في شرعية سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية المفترض أنها مستندة في شرعيتها إلى شرعية منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت قيادتها تستمد شرعيتها بدورها من الشرعية “الثورية” للمقاومة التي كانت تمثلها حتى بعد أن نبذت هذه القيادة المقاومة باعتبارها “عنفا” في البداية ثم “إرهابا” منذ وقعت اتفاق أوسلو ، مما حول المنظمة إلى أطر متداعية مهملة ومفرغة من أي مرجعية للشرعية إثر تغيير ميثاقها وتعطيل نظامها الداخلي ، وأنهى بذلك ولاية مؤسساتها وجردها من الشرعية ، بينما يجري إحلال مؤسسات السلطة محلها كمرجعية لشرعية “انتخابية” فلسطينية بديلة لا يمتد تمثيلها الانتخابي لقيادة منظمة التحرير ومؤسساتها مع أنها أثبتت بدورها أنها “انتقائية” بعد الانقلاب على نتائج انتخابات عام 2006 التشريعية ، بحيث يبدو الصخب الإعلامي الراهن الذي تثيره قيادة السلطة حول شرعية المنظمة معركة مفتعلة للدفاع عن شرعية سلطة الحكم الذاتي البديلة أكثر مما هي للدفاع عن المنظمة التي أفرغتها هذه القيادة من أي مرجعية للشرعية .
فالانقلاب على منظمة التحرير وخلق بديل لها متمثل في سلطة الحكم الذاتي عملية جارية على قدم وساق منذ توقيع “إعلان المبادئ” بينها وبين دولة الاحتلال في واشنطن عام 1993 ، وقادت هذه العملية فعلا الآن إلى تحول قيادة السلطة إلى قيادة للمنظمة أو العكس ، وإلى تقزيم دور المنظمة إلى مجرد ختم رسمي يوضع حاليا على شهادة ولادة سلطة الحكم الذاتي البديلة لها ، ويوضع لاحقا على شهادة وفاتها ، ختم يراد له أن يظل معتمدا ، إسرائيليا وأميركيا ، كتوقيع يمثل الشعب الفلسطيني تمهر به أي وثيقة يتم التوصل إليها حسب المعطيات الراهنة لعملية المفاوضات الجارية سرا وعلنا ل”إنهاء الصراع” .
لذلك فإن الصخب الإعلامي الراهن الذي تثيره قيادة السلطة حول شرعية المنظمة هو معركة مفتعلة تستخدم كساتر دخاني أولا للتغطية على الانقلاب الحقيقي الجاري ضد المنظمة منذ اتفاق أوسلو وثانيا لحماية بديل السلطة الجنيني الذي تشرف قابلة إسرائيلية – أميركية مزدوجة الجنسية على توليده وتسعى إلى تزوير نسبه بأبوٌة منظمة “التحرير” له في عملية قيصرية مفروضة على الشعب الفلسطيني .
لكن المعركة إذا كانت في جانب منها مفتعلة في الدفاع عن شرعية منظمة لم تبق لها قيادة السلطة أي شرعية وحولت قيادتها إلى ما يشبه مؤذنا أبكم يدعو مؤمنين فقدوا إيمانهم إلى مسجد تحول إلى أطلال ، فإنها من جانب آخر معركة حقيقية غير مفتعلة تخوضها قيادة السلطة للدفاع عن شرعية بديل المنظمة الذي تقوده ، وليس سرا بل هو حقيقة معلنة أن شرعية هذا البديل مستمدة أولا وآخرا من الاعتراف الإسرائيلي الأميركي بها ، ومن شهادة ولادة تمنح لها لاحقا تصدر من واشنطن وتل أبيب ، وليس سرا أيضا أن خطرا نشأ مؤخرا يهدد هذا البديل الجنيني للمنظمة الذي يحمل ختمها — في مفارقة لا تخفى على أي مراقب — وتمثل هذا الخطر في عودة “مرجعية المقاومة” كمصدر للشرعية الفلسطينية بعد صمود المقاومة في مواجهة العدوان الأخير الذي شنه الاحتلال على قطاع غزة ، وهو الصمود الذي قال مركز القدس للاعلام والاتصالات في آخر استطلاع للرأي له أجراه أواخر الشهر الماضي إن أغلبية الفلسطينيين يعتبرونه انتصارا زاد من شعبية حركة حماس التي قادته لتتفوق على خصومها في السلطة في أي انتخابات تجري الآن ، وهذا الخطر يهدد عملية المفاوضات التي تسمى زورا “عملية السلام” وهنا مربط الفرس لفهم الأسباب الحقيقية الكامنة وراء التعبئة السياسية والدبلوماسية الشاملة التي لجأت قيادة السلطة فيها إلى توظيف كل الأوراق التي بحوزتها لافتعال معركة حول تصريحات رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل حول نية فصائل المقاومة إنشاء مرجعية وطنية لها ولشعبها بعد أن أفرغت قيادة السلطة منظمة التحرير من دورها كمرجعية للشعب الفلسطيني .
وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير وأفقدت قيادة السلطة و”شركاؤها” في عملية السلام صوابهم هي استقبال أغلبية الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية — التي اعترفت بمنظمة التحرير عام 1974 الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني — لممثلي فصائل المقاومة كممثلين لشعبهم في قمة الدوحة بحضور دولتين جارتين يتعاظم دورهما الإقليمي هما تركيا وإيران ، فقد ذكرتهم هذه الخطوة بالالتفاف الجماهيري حول حركة فتح بعد معركة الكرامة التي دفعت الزعيم العربي المصري جمال عبد الناصر آنذاك إلى اصطحاب الراحل ياسر عرفات ، وليس رئيس المنظمة ألمرحوم أحمد الشقيري ، معه إلى موسكو كممثل لحركة التحرر الوطني الفلسطيني مما مه
د لحلول عرفات محل الشقيري في رئاسة منظمة التحرير عام 1969 .
د لحلول عرفات محل الشقيري في رئاسة منظمة التحرير عام 1969 .
وبما أن منظمة التحرير هي الموقعة على كل الاتفاقيات المنبثقة عن اتفاق أوسلو مع دولة الاحتلال ، وهي الاتفاقيات التي استبدلت قيادة سلطة الحكم الذاتي المنبثقة عنها مرجعياتها بمرجعيات المنظمة كمصدر وحيد للشرعية الفلسطينية ، فإن عودة المقاومة كأساس لوحدة النضال الوطني وللشرعية الوطنية يهدد بالتراجع عن هذه الاتفاقيات وبانتهاء الدور السياسي لموقعيها وبتغيير كامل في قواعد الصراع وأشكال المقاومة ومرجعية المفاوضات وتكتيكاتها ، لذلك فإن المعركة المفتعلة حول تصريح خالد مشعل تخفي وراءها معركة حقيقية من أجل بقاء المفاوض الفلسطيني نفسه ، ليستمر في الحرث في بحر عملية سلام ممتدة إلى ما لا نهاية كغطاء فلسطيني “شرعي” لمواصلة الاحتلال خلق الحقائق المادية على الأرض المحتلة عام 1967 حتى يصبح تحقيق ما يسميه هذا المفاوض “المشروع الوطني” مستحيلا .
وفي معركته المفتعلة يعتمد هذا المفاوض مقولات متهافتة ، فتقويل خالد مشعل ما لم يقله واتهامه بأنه يسعى إلى خلق “بديل” للمنظمة يستهدف التغطية على انقلاب هذا المفاوض نفسه على منظمة التحرير وشرعيتها ومرجعياتها وعلى “بديل السلطة” الذي خلقه لها ، من ناحية ، ويتناقض من ناحية أخرى مع حقيقة أن حماس قد وقعت على سلسلة من الاتفاقيات الوطنية والعربية اعترفت بها بمنظمة التحرير اعترافا صريحا لا لبس فيه على قاعدة الشراكة الوطنية لإعادة دورها لها بدءا من اتفاق القاهرة وانتهاء بالمبادرة اليمنية ، وهي الاتفاقيات التي بذل المفاوض جهده لإجهاضها لأن العمل بها سينهي بديل المنظمة الذي خلقه هذا المفاوض وشركاؤه .
أما التذرع بأن دعوة مشعل إلى بلورة مرجعية للنضال الوطني الفلسطيني تهدد بالانقسام فإنها ليست أقل تهافتا كون هذا الانقسام قائم فعلا وقد اعتمدته مرجعية مؤتمر أنابوليس شرطا مسبقا لاستئناف المفاوضات وقبل المفاوض الفلسطيني بهذه المرجعية لا بل إنه يقود معركتاه المفتعلة والحقيقية كلتاهما على أساسها وهو قد اختار بناء تحالفاته بناء عليها وهي بصورة واضحة تحالفات تستبعد تماما أي وحدة وطنية لا تعتمد أنابوليس مرجعية لها ، ونتيجة لذلك عجزت المنظمة عن استيعاب الحركات الوطنية الجديدة مثل حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما بحيث لم تعد المنظمة هي الحاضنة الوطنية الجامعة التي أنشئت من أجلها .
ولم يعد يخفى على أي مراقب محايد كذلك بأن تركيز قيادة السلطة على اتهام حماس بخدمة “أجندات إقليمية” إنما يستهدف التغطية على التزامها هي ب”الأجندة الأميريكية” كشريان حياة وحيد يبقيها والقضية الفلسطينية في غرفة العناية المركزة لدولة الاحتلال ، ويلاحظ في هذا السياق أن هذه القيادة تستخدم المخاوف العربية المشروعة من الأجندات الإقليمية استخداما ميكافيليا الغاية فيه تسوغ الواسطة بحيث لم تعد هذه القيادة تهتم بصب زيت الانقسام الفلسطيني على نار مثيله العربي وفي فتح معارك سياسية جانبية مع دول إقليمية عربية وغير عربية بينما تستمر في رطانتها حول عدم الزج بنفسها في حمأة الخلافات العربية البينية وعدم التدخل في الشؤون العربية ، فلا ترى حرجا مثلا في أن ترفض بهذه الحجة المشاركة مع ثلاث عشرة دولة عربية في “قمة” الدوحة لكي تقبل المشاركة مع تسع دول عربية اجتمعت في أبو ظبي على مستوى “وزاري” ، أو ترى حرجا في استخدام الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث للتحريض أو التعريض بينما تصمت صمت القبور على احتلال “شريكها” الأميركي للعراق !
*كاتب عربي من فلسطين