لا شيء في الإنتخابات العراقية التي جرت قبل أيام يستحق الذكر من زاوية اعتبارها ـ ولو شكلا ـ عملية اختيارات تعكس ممارسة ديمقراطية أو ما شابه . ولهذا لم تستحوذ من هذه الزاوية إهتماماً جدّياً خارج إطار الأجهزة المتخصصة برصد أجواء جماعاتها وجماعات غيرها على الأرض ، وخارج إطار الإدارة الأميركية الجديدة التي انتقلت اليها مسؤولية “رعاية ” قواتها المحتلة هناك، والتي بدأت تحاول منذ انتخاب باراك أوباما إيجاد مخرج يجمع بين الوفاء بوعد الإنسحاب ، وتحقيقه بأسلوب آمن وسريع إن أمكن . ولهذا كان من الطبيعي إعلان البيت الأبيض يوم السبت 31 كانون الثاني المنصرم أن الرئيس تابع الانتخابات التي جرت بالأمس، وأنه بصدد اتخاذ قرار من المرجّح أن يؤدي إلى خفض في عدد القوات الأميركية هناك، مع التذكير بأن اوباما قد التقى مع القادة العسكريين للبحث في هذا الموضوع والخطط المتعلقة به.
لكن الغريب في المشهد الإنتخابي ، حشر “مراجع” أخرى أنوفها في عملية الرقابة وحتى التدخل ، حسبما حملت إلينا الأنباء الواردة من البلد المحكوم من قبل الإحتلال والميليشيات الطائفية والفئوية المتعلقة بأحذيته حتى الآن . فقد طالعتنا الأنباء صبيحة السبت الماضي بمانشيتات تزفّ خبراً من مكتب المرجع الديني الشيعي علي السيستاني يُبشرنا بأن المرجعية تفرغت لمراقبة عملية الإنتخابات وسيرها في جميع أنحاء العراق ، تأكيداً على موقفها الثابت في الوقوف على مسافة واحدة من جميع المرشحين! ( تماماً كتأكيد حكام السعودية الدائم على موقفهم تجاه سائر القوى المتنازعة في لبنان؟!). وكان لافتاً على هامش هذا الخبر إرفاقه بتصريح لنجل المرجع الآخر بشير النجفي يبلغنا فيه أن والده لم يتمكن من التصويت، موضحاً سبب ذلك بالقول نصاً: “لقد حاولنا جلب صندوق الاقتراع إلى مكتب سماحته للإدلاء بصوته، ولكن ذلك لم يتحقق بسبب تأخر الإجراءات”!!
قد يكون من السذاجة السؤال هنا: إذا كان الإعلان عن وقوف السيستاني على مسافة واحدة من الجميع يثير من السخرية ما لا يدع مجالا لمضيعة الوقت في الرد عليه ، فهل جلب الصناديق لمكاتب بعض المرجعيات الأخرى من “الرموز” التي تعتبر نفسها فوق الجميع ، يُعدّ من موجبات العملية الديمقراطية ، ويؤكد على موقفها “الحيادي” وفق منظور السيستاني، علماً بأن رؤساء وقادة سائر دول هذا العالم يحرصون على الإدلاء بأصواتهم في مراكز الإنتخاب وأمام عدسات التصوير وأجهزة الإعلام ؟
وإذا كان مفهوماً إهتمام أوباما بمراقبة هذا الحدث من بيته ـ البيضاوي ـ الجديد ، وهو ما أُعلن رسمياً عنه، فكيف يمكننا تفسير إعطاء القنصل الإيراني في البصرة نصير بابغبان الحق لنفسه بمراقبة تفاصيل عملية الإنتخاب عن قرب وليس من بعيد كغيره، والإعلان بلسانه الطويل لوسائل الإعلام ، توضيحاً لما تردّد حول الموضوع ،أن زيارته لموقع الاقتراع في محافظة البصرة قد اقتصرت على منطقة المعقل وليس كافة المناطق الأخرى بالمحافظة ، كما نقلت أجهزة الإعلام ؟
وليس هذا فحسب، بل قال القنصل في تصريحه بالنص ، أن جولته على المراكز الإنتخابية في هذا الموقع قد جاءت بموافقة مفوضية الإنتخابات التي أصدرت ملصقات خاصة لسيارته ، وأمّنت له الحماية للتنقّل الآمن بين هذه المراكز، وأن هدفها لم يكن التأثير على الناخبين ( لا قدّر الله ! ) أو على سير العملية – التي يقف منها السيستاني على مسافة واحدة من الجميع – بل مجرّد زيارة “كالآخرين”!
أما على صعيد الأحداث التي رافقت العملية وكانت أبرز من الانتخابات ذاتها في يوم الإقتراع، فقد طالعتنا الأنباء صباح اليوم التالي/السبت بأخبار تتحدث عن قتلى وجرحى في العديد من المراكز الإنتخابية، وعن إقتحامات قامت بها مجاميع الأكراد لأكثر من موقع أيضاً، منها مفوضية خانقين ، وقيام قوات ” “البيشمركة” بقفل مناطق بأكملها في “قوس الأقلّيات”. لاحتكار صوت المسيحيين واليزيديين والشبك . .
وفي شرحها للأجواء التي تسود هذه المنطقة قالت صحيفة “الكريستيان ساينس مونيتور” عدد الأحد 1 شباط/ أن هناك مناطق في العراق ” موبوءة جداً بالتهديدات وبعمليات الترهيب السرية والعلنية “. وفي رأيها أن السلطات الكردية تحاول مدّ سيطرتها على امتداد قوس المدن الذي يضمّ أعداداً كبيرة من المسيحيين والزيديين وغيرهم، ذلك لأنه وإن كان للمسيحيين – وفق القانون – كرسي واحد، لكن لمجموع أصواتهم أهمية بالنسبة للأكراد ، نظرا لأنها تُسهم بترجيح كفّتهم في ميزان الإقتراع .
أما في النواحي والأقضية التابعة لمنطقة نينوى ، فقد قامت “البيشمركه” أيضاً مع الأسايس ( قوات الأمن الكردية الرسمية! ) بمصادرة استمارات الإقتراع بالقوة، وتحكّمت في توزيعها على من سيقترع للقوى الكردية، وانهالت بالضرب على من اعترض ، واعتقلت عدداً من المراقبين، في الوقت الذي حُرِم فيه 50 ألف مواطن من الإقتراع .
وليس بعيداً عن مكان هذا الحدث أعلنت الشرطة في محافظة ”طوز خوماتو” عن وقوع هجمات واقتحامات وتفجيرات بعبوات ناسفة أدّت إلى مقتل اثنين وجرح تسعة “فقط !”
لا يغيب عن الذهن هنا أن جردة يوم الإنتخابات وما قبله أيضاً قد تضّمنت اغتيال عدد من المرشحين، وأعاد البعض مسؤولية هذا الفلتان الى أن الأحزاب التي تتوزّع مهام الحكم في عراق اليوم ترى في الإستحقاقات الدستورية والقانونية صراع إرادات بين القوى والميليشيات، ومعركة إقصاء سياسي للبعض .
جدير بالتذكير أيضاً أن هذا النهج المكرّس في قانون الدولة الذي سنَته قوات الإحتلال أيام إدارة برايمر (أواخر العام 2003) قد كتبه يهودي أميركي من أصل عراقي يُدعى نوح فيلدمان، وقد رسّخ هذا القانون روح الطائفية والتقسيم، وما زال هو السائد في القرارات والممارسات على الأرض، تحميه قوات الإحتلال من جهة، والجارة الشرقية التي لولاها لما احتلت بغداد ـ على حد تعبير أبطحي ـ من الجهة الأخرى.
… ويقولون انتخابات … وديمقراطية … وعملية سياسية ؟
( للدقة والأمانة لابدّ من الإشارة إلى أن معظم ما احتوته السطور السابقة مقتبس ـ هذه المرة ـ من الصحف والمواقع العراقية الجالسة في حضن الإحتلال ،فاقتضي التنويه والتنبيه لمن تهمه الأمانة في زمن الخيانة على كل صعيد )