فايز أبو راس
الشعب الفلسطيني في العادة غير معني بوضع حركة فتح أو أي تنظيم فلسطيني آخر من الناحية التنظيمية, لأن هذه مسألة خاصة تهم التنظيم نفسه ولكنه معني كثيراً بوضع جميع الفصائل من الناحية الوطنية لما لذلك من تأثير على واقع ومستقبل نضال الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية لأن الخيارات السياسية للفصائل هي التي صنعت في الماضي وتصنع اليوم الوحدة والانقسام داخل كل بيت فلسطيني في الوطن وفي الشتات ومن بين جميع الفصائل الفلسطينية فإن حركة فتح كحركة تحرر وطني حظيت ولازالت تحظى بأهمية خاصة فيما يتعلق بخياراتها وتوجهاتها السياسية كونها التنظيم الأكبر والذي قاد نضال الشعب الفلسطيني في العصر الحديث بلا منازع وراكم خبرة وطنية وتجربة كفاحية وعلى كافة الصُعد لم تتوفر لغيره من الفصائل, فقد وضعت فتح بصمتها على كل النجاحات والإنجازات الفلسطينية التي تحققت في الثورة المعاصرة وشملت شعبيتها كل فئات ومكونات الشعب الفلسطيني حتى أصبحت تنظيم من لا تنظيم له وصار اسمها مرادفاً للوطنية الفلسطينية .
خيارات فتح السياسية الأولى كحركة تحرر وطني أطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة التي نقلت الشعب الفلسطيني من تجمعات اللاجئين إلى معسكرات الثوار والمناضلين ومن أُناس ينتظرون صدقات وهبات المحسنين إلى شعب مناضل من أجل الحرية يحمل راية الثورة العالمية في العصر الحديث, لذلك فإن خيارات فتح السياسية ليست شأناً فتحاوياً محصوراً في أبناء فتح وحدهم بل هي شأن وطني يعني كل أبناء الشعب الفلسطيني ولهم الحق في توجيه الملاحظات والنقد والتصويب لهذه الخيارات لأن التغيرات التي طرأت على مجرى النضال الفلسطيني هي نتاج خيارات قيادة فتح السياسية التي فرضت برنامج التسوية – تحت ذرائع المرحلية للنضال الوطني- على م.ت.ف. ومن ثم على فتح والشعب الفلسطيني بشكل عام, على الرغم من أن برنامج التسوية لم يكن في يوم من الأيام يحظى بالإجماع الوطني وقد أدى إلى شق وحدة الشعب الفلسطيني في الماضي وقيام جبهة سياسية معارضة ل م.ت.ف. في حينه هي جبهة الرفض وكان الأساس لهذه القسمة سياسياً وليس بسبب التدخل الخارجي – الذي تعزى إليه المسؤولية عن الانقسامات الفلسطينية حتى اليوم – في تغييب متعمد للأصل السياسي في الاتفاق والاختلاف الفلسطيني .
حافظت حركة فتح على دورها وموقعها القائد لحركة التحرر الوطني الفلسطينية كما حافظت في برامجها وأوراقها الداخلية على مواقف لاتتفق مع الأداء السياسي لقيادتها التي كانت تمرر موافقتها على مشاريع التسوية عبر الضغط المزدوج من موقعها القيادي في المنظمة وفي فتح بأن تفرض على م.ت.ف. باسم فتح وعلى فتح باسم م.ت.ف. وفي الواقع فإنها انتقلت شيئاً فشيئاً وبشكل بطيء من موقع سياسي إلى آخر وفي طريق انتقالها كانت وحدة الشعب الفلسطيني تتعرض للتمزق بسبب السياسات التي لا تحظى بالإجماع الوطني حتى وصل الأمر إلى حدوث الانقسام داخل فتح نفسها عام 83 على أرضية الموقف من مشروع الملك فهد(قمة فاس) ونتائج الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام82 , وبعد ذلك أصبحت قيادة فتح أكثر تحرراً في الانتقال إلى مواقع الرهان على مشاريع التسويات السياسية وما أن لاحت لها بادرة جديّة للمشاركة في برنامج تسوية أثناء مؤتمر مدريد للسلام حتى قفزت ومن وراء ظهر جميع الوفود حتى الوفد الفلسطيني المفاوض وعقدت اتفاقات أوسلو بدون أي تعهدات إلزامية كافية تؤمن نيل الحقوق رغم نصائح المستشارين .
اتفاقات أوسلو ودخول قيادات فتح إلى فلسطين والوهم الذي رافق ذلك بأن مرحلة التحرر الوطني قد أُنجزت وأننا أمام مرحلة بناء السلطة والدولة شكّل ضربة قاضية لحركة فتح وحوّلها إلى حزب سلطة مهمتها تجهيز الإدارات والأجهزة الأمنية وملاحقة المعارضين (المؤمنين بهدف التحرير والمقاومة) وبذلك تحولت في الواقع والممارسة إلى حرس مستوطنات وثورة مضادة بغض النظر عن حسن نوايا القائمين عليها والعاملين فيها, وبعد سنوات من الخدمة في مشروع التسوية وصل الرئيس ياسر عرفات إلى الحائط المسدود في كامب ديفد وتبخر حلم التسوية المشرّفة التي حلم بها طوال حياته وشكلت انتفاضة الأقصى بداية الصحوة لحركة فتح وإعادة الاعتبار لمفهوم حركة التحرر الوطني وكان يمكن لهذه الصحوة أن تفعل فعلها وأن تعيد فتح مرة أخرى إلى مشروع المقاومة لكنها فشلت في ذلك لعدة أسباب
(1) تردد قيادتها في الاختيار(خاصة ياسر عرفات) ما بين اعتماد المقاومة كإستراتيجية عمل أو استخدامها ورقة ضغط.
(2) مسار المفاوضات والتسوية خلق بنى وأدوات ومصالح تحولت إلى قوة قادرة بتحالفاتها على أن تعيق وتمنع العودة إلى برنامج الثورة.
(3) الخوف من مزاحمة القوى الإسلامية الصاعدة المنافسة لحركة فتح.
(4) تحول غالبية كادر فتح إلى موظفي سلطة ومدراء وأصحاب مكاسب ولا يرغبون بالاستغناء عن أوضاعهم الجديدة مما أضعف
الروح الكفاحية لديهم وضرب علاقتهم بقاعدتهم الجماهيرية.
الروح الكفاحية لديهم وضرب علاقتهم بقاعدتهم الجماهيرية.
كل ذلك منع حركة فتح من تجديد نفسها بشكل كامل مع أنها أنتجت تشكيلات عسكرية للمقاومة باسم كتائب شهداء الأقصى قادرة وقوية في كل المناطق لكنها لا تتمتع بالمشروعية التنظيمية الكاملة ويتم التبرؤ منها في كل محطة وأمام كل استحقاق أو يجري استخدام اسمها في بناء ميليشيات سوداء لبعض المتأسرلين أو لبعض الكادرات التي سعت لتثبيت زعامة قبلية أو مناطقية أو تشكيل حضور معين.
حركة فتح أضاعت فرصة ثمينة للعودة إلى نفسها وبرنامجها كحركة تحرر وطني أثناء الحرب الأخيرة على غزة, وما كان على قيادة حركة فتح إلا أن تصدر بيان إعلامي تعلن فيه تبني المقاومة والدفاع عن غزة ليس أكثر, لكنها آثرت التمسك بقيادة السلطة على قيادة المقاومة وبذلك فإن مشكلة فتح الحقيقية ليس فيمن يستهدفها أو يسعى لإزاحتها ووراثتها من المنافسين الإسلاميين بل في قيادتها وبرنامجها الذي يحول بينها وبين دورها الذي انطلقت من أجله, ومهمة كادر فتح الوطني والمقاوم ليست في الدخول في المعارك الجانبية المطلوب حشره فيها ضد المنافسين والمهاجمين بل في استرجاع قرار فتح من أيدي من حوّلها إلى حزب سلطة وثورة مضادة, وبدلاً من الدفاع عن قيادة السلطة ومجموعة المتأسرلين عليهم الدفاع عن فتح بنقلها إلى خندق المقاومة بعد أن حوّلها هؤلاء إلى عنوان يتلطون خلفه ويحكمون باسمه.
الحقائق التي يجب أن تبقى حاضرة في الذهن وأن لا تغيب عن البال أن حركة فتح من حيث كونها أكبر حركة شعبية وذات إطار تنظيمي مرن وبرنامج وطني عام يتمثّل فيها الشعب الفلسطيني بكل فئاته وشرائحه ستبقى على الدوام حاضرة في الواقع وعلى الأرض وستبقى ساحة المقاومة الفلسطينية مملوءة دائماً بالمناضلين الفتحاويين ولن يستطيع أحد أن يلغي دورهم ما داموا يتمسكون به بغض النظر عن وجود قرارهم بيد من لا يؤمن بالمقاومة اليوم, موقع فتح الحقيقي هو في خندق المقاومة, ووجود الأخطاء في عمل المقاومة لا يعني بأي حال من الأحوال مقارنتها بالثورة المضادة.