أسامة أبو ديكار
كاتب سوري
بعد ثلاثة أسابيع من الدمار والقتل والترويع الصهيوني لغزة وأهلها، وبعد أكثر من ستة آلاف شهيد وجريح فلسطيني، وبعد الكثير الكثير من دعوات (الأخوة) العرب وغير العرب للعقل والتعقل، وللواقعية والقبول بشروط موازين القوى ومعاييرها (المحلية والدولية) والرضوخ لإملاءات الخسارة المؤلمة.. بعد كل ذلك تنهض غزة من خلال ركام دمارها لتقول للعالم أجمع : ما زلنا هنا، نحن أهل غزة، أطفالنا قبل كبارنا، نقول أن غزة يبتنا الكبير رغم مساحة أراضينا الضيقة.. في حين أن أراضي العرب الواسعة ضاقت على أهلها وصغر بيتهم.. هذا إن بقي للأخوة العرب، بعد تقاعسهم عن مد يد العون لغزة في محنتها، بيت حقاً!!
ما تقوله غزة ليس جنوناً، وليس ضرباً من يأس ما بعد الكارثة.. هو ربما تحدي الدم للسيف، والصدر الأعزل للقذيفة المدججة بالموت، وقلم الرصاص الذي يرسم أفقاً أخضر للقنبلة التي تلون السماء برماد الذبح.
وإذا أردنا أن نكون أكثر صراحة في المفردات، فيمكننا القول أن ما قالته غزة اليوم يثبت أشياء كثيرة، لكن الشيء الأكثر إثباتاً ووضوحاً، أن ثقافة الهزيمة لم تفعل فعلها داخل الشارع الغزاوي رغم دماره، في حين أن ثقافة الهزيمة أكلت الشارع العربي رغم (رونقه) ورغم الأمن الذي يرفل به.
وبين الثقافتين هناك من انتصر بالقوة ولم يتحول انتصاره بعد إلى واقع، وهناك من هو مهزوم بالقوة والفعل معاً، فلا يضير الشعب الفلسطيني اليوم أن تحرير الأرض يبدو بعيداً، وأن الجزار الإسرائيلي يقوده من مذبحة إلى مذبحة أخرى، ما دام هناك جذوة مقاومة تبلورت وانصقلت وأصبح من المستحيل اقتلاعها، وهو الأمر الذي يفسر قلق الشارع الإسرائيلي اليوم أكثر من أي وقت مضى، فقد أثبتت غزة أن الفلسطينيين العرب ما زالوا أحياء، وربما أكثر من أحياء، في حين أن النظام العربي الرسمي يعمل (بمعية) الماكنة الأميركية والإسرائيلية على قتل ثقافة المقاومة في الشارع العربي إلى الأبد.
والقضية باختصار، ليست بحجم ضحايانا وضحاياهم، وليست بحجم فاعلية صاروخ الغراد أوالقسام، مقارنة بفاعلية الأف 16 أو الفوسفور الأبيض، القضية باختصار، تتعلق بفاعلية ثقافتين، إحداهما تقاوم القتل والاقتلاع، والأخرى تؤدلج القتل والاقتلاع، وما دامت ثقافة المقاومة مشرقة وحية في الضمير الفلسطيني والعربي في آن، فمعنى ذلك أن الانتصار قادم حتى لو تأخر.
من هنا رأينا أن الآلة العسكرية الصهيونية، لم تعمل وحدها في مواجهة أهل غزة، ولكن رافقتها آلة أخرى أكثر توحشا وتدميرا وتأثيرا، وهي آلة تدمير ثقافة المقاومة بكل السبل المتاحة، سواء إعلامية أو غيرها.
لقد قويت اليوم في الوعي العربي إمكانية الانتصار على إسرائيل في المواجهة إذا ما تغير فن الحرب، من النظامية، جيشاً لجيش، إلى الشعبية شعباً في مواجهة جيش محتل. وصدقت النظرية في صد العدوان على بيروت في 1982 وفي تحرير الجنوب في 2000 ثم في حرب تموز 2006 .
وربما هذه أحد أكبر انتصاراتنا في غزة.
والسؤال الذي طرحه المفكر المصري حسن حنفي يبدو اليوم أكثر إلحاحاً وضرورة، وهو لماذا أصبح العرب أسرى تجربة الهزيمة تجاه إسرائيل أكثر من تجاربهم في النصر؟ لماذا تقبع ثقافة السلب أكثر من ثقافة الإيجاب، والتردد أكثر من الثقة بالنفس؟ ألم تساعد قضية فلسطين، قضية العرب الأولى، في اليقظة العربية الكبرى؟ إن الوعي العربي كله في حاجة إلى إعادة بناء على ثقافة الإيجاب أكثر من ثقافة السلب، وعلى الثقة بالنفس أكثر من التردد، وعلى التضامن والجهود المنسقة المتزامنة أكثر من الجهود المفرقة أو المتتالية.
وأعتقد هنا أن ثقافة المقاومة تبدأ من الإنسان والمجتمع والأرض والدولة، وتقتضي هذه الثقافة، من ناحية أخرى، فك الارتباط بين أيديولوجية السلطة وأيديولوجية الطاعة.
والسؤال الآخر، المرتبط بسؤال دكتور حنفي، هو إلى ماذا ستقودنا ثقافة الاستسلام؟
ألن تؤدي بنا إلى مزيد من الخضوع والخنوع، وفقد المزيد من أراضينا، بل فقد كل أراضينا وأوطاننا، لأنَّ عدونا مستمر في أطماعه التوسعية، وعند قيام جيوشه باجتياح أراضينا، فهي تعزل المعتدى عليه عن سائر أشقائه العرب، وتهاجمه بمفرده لتسهل السيطرة عليهم، ونقف نحن العرب نتفرج على إخواننا، وهم يذبحون ويُقتلون، وبيوتهم تدمر فوق رؤوسهم، ومن يبقى منهم على قيد الحياة يُهجَّر. ولم يجد أعداؤنا من يقاومهم، فقد أماتت “أسطورة السلام” روح المقاومة فينا، وقضت عليها، وهذا هو الشرق الأوسط الجديد الذي تريده أمريكا وحليفتها إسرائيل.
والسؤال الأخير الموجه اليوم للعرب والعروبة، والذي يتجاهله النظام الرسمي العربي هومتى سنتبنى ثقافة المقاومة؟ وفي الإجابة عليه تقول الدكتورة سهيلة زين العابدين حمَّاد في مقالها المعنون (استعادة ثقافة المقاومة) تقول الدكتورة سهيلة:
(ألم يئن الأوان لتبني ثقافة المقاومة بعد إعلان موت عملية السلام، ونقف إلى جانب المقاومة لدحر العدوان والتحرر من الاحتلال، ونحيي روح الجهاد في سبيل الله التي أماتها أعداؤنا فينا.
إن تكاثر الأمم علينا سببه ليس من قلة، بل نحن كثرة، ولكن كثرة كالغثاء، لأنَّنا أحببنا الحياة وكرهنا الموت، كما جاء في الحديث النبوي الشريف).
لقد حررت غزة اليوم في صمودها إزاء جبروت وغطرسة الجيش الإسرائيلي، الإرادة العربية من وهن الخطاب العاجز والمراهن على « السلام» ولقد أثبتت أن الإرادة والعقيدة تصنعان المستحيل..وهذا ما تحقق قبلاً في الجنوب اللبناني الذي دحر المغتصب وطائراته الأميركية وكل التحالف الدولي والأصوات النشاز التي راهنت على إنهاء المقاومة الشوكة المغروسة في عين المغتصب. وتحول الجنوب إلى قلعة محررة ومشرقة في العالم العربي ودرساً لا ينسى بالنسبة لإسرائيل.
ما فعلته غزة يبدو أكبر من الصمود تحت عبث صواريخ الأف 16، وجرائم الفوسفور الأبيض والمعدن الخامل، غزة في صمودها حررت الإرادة العربية الشعبية من وهم الهزيمة ومن وهم المراهنة على السلام الذليل، والأهم لقد حررت غزة العرب من وهم المراهنة على النظام العربي الرسمي الذي بدا، أثناء كارثة غزة وبطولتها في الصمود والتحدي، أشبه بندّابات المآتم اللواتي يستأجرن للبكاء على رأس الميت.. ليس إلا!!