ميسلون هادي
تخبرنا سيرة المنشد المعروف الشيخ امام،رفيق الشاعر أحمد فؤاد نجم في أشعاره وأغانيه الوطنية، بأنه التحق في عام 1929 بالجمعية الشرعية بحي الازهر للدراسة، وقضى بها أربع سنوات وأتم حفظ القراّن الكريم فاستحق لقب (شيخ) رغم صغر سنه. وكان الاستماع الى الاذاعة من ممنوعات الجمعية، لكونه بدعة بنظرهم ،فقررت الجمعية فصله بالاجماع عندما وجدته يستمع الى الاذاعة. وكان الراديو أول دخوله الى العراق، غير مألوف بين الناس وتحفظت عليه الكثير من العوائل، الامر الذي دفع مونولوجستا عراقيا، هو الفنان عزيز علي، الى تأليف مونولوج شهيراسمه (يحيا الراديو) لايزال يبث من الاذاعات العراقية الى يومنا هذا، ويشجع فيه الناس على الاستماع للراديو ويحببهم فيه. كما يخبرنا كتاب( لورانس في بلاد العرب) ان الفونوغراف، وهو جهاز صوتي اّخر، كان قد منعه الشريف حسين من دخول مدينة مكة المكرمة في عقابيل الحرب العالمية الاولى، أي أن هذا المنع حدث في أوائل العشرينات من القرن الماضي .أما الان، وقد أصبحت الصور والرسائل الالكترونية تدور في الهواء الذي حولنا ومن خلف ظهورنا، قادمة من الاقمار الصناعية السابحة فوق رؤوس الجميع، فلم يعد المنع مجديا مع ما أصبحنا نجده،وعلى اي الجانبين نميل، من التحديات الرهيبة و التقنيات المبهرة والبرامج ذات الجاذبية الهائلة. فكيف اذن، نتعامل مع هذه التحديات ونتقي شرورها لحماية خط الدفاع الاخير عن الهوية العربية، وأقصد بذلك الخط الدفاعي هو الثقافة التي يبدو أنها لوحدها القادرة على توحيد الامة، مادامت الفتن الطائفية والسياسية تكاد أن تمزقها شر ممزق.
وهنا نجد من الضروري أن نذكر، إن مظاهر الغزو الثقافي كانت موجودة على كوكبنا الأرضي منذ آلاف السنين، بل أن العولمة ذاتها كانت موجودة منذ فتوحات الإسكندر المقدوني للشرق(وهي الفترة التي تسمى تاريخيا بالفترة الهيلينية)، حيث يذكر كادر جوستاين في كتابه الشهير( عالم صوفي) انه عندما كان القروي الهندي أو العربي أو الفارسي يخرج إلى الأسواق فيجد أمامه خليطاً من البشر والأفكار والسلوكيات لم يعرفها أو يعهدها في أعرافه وتقاليده ،كما يجد إن معتقداتهم ودياناتهم مختلفة عما يعتقد ويدين به، فان هذا كان يدفعه إلى الإحباط ويجعله يشعر بالإنزواء، لأنه فيما مضى كان يعتقد أن العالم هو عالمه فقط وأن معتقداته وتقاليده هي الوحيدة التي يجب أن تحترم فهو لا يعرف سواها.
إن فكرة التعرض لمثل هذه التجربة ،ستتكرر وتتخذ تمظهرات عدة عبر الفتوحات والعمليات العسكرية ونشوء الإمبراطوريات وتوسع الأمم وفي هذا الصدد، نجد من المفيد أن نذكر ما جاء في كتاب (لورنس في بلاد العرب) لمؤلفه لويل توماس، إذ يقول: “إن الأقطار العربية بلاد الاضطراب وعدم النظام. نحن نستعمل السكاكين والشوك والملاعق وهم يكتفون بأصابعهم، ونحن نستعمل الموائد والكراسي وهم يجلسون على الأرض، نحن نمتطي الخيول من الشمال وهم يمتطونها من اليمين، نحن نقرأ من الشمال إلى اليمين وهم يقرأون من اليمين إلى الشمال. يغطي ساكن الصحراء رأسه (صيفاً وشتاء) على السواء بينما يترك أقدامه عارية طوال السنة. نحن نرفع قبعاتنا عندما ندخل دار صديق وهم يخلعون أحذيتهم، بل من النادر أن تجد الشوارع في الأقطار العربية متوازية .
إذن كل شيء جديد سيكون موضع خلاف ورفض من قبل المجتمع في البداية، ولكن مع مرور الوقت واستتباب المشاعر ستحدث حالة من التألف مع هذا الجديد، وقبوله وتبني الصالح منه ونبذ الطالح من القديم، وهذا هو في النهاية ما يقود إلى تقدم المجتمعات وهرولتها إلى أمام… ومع أن الأصوات التي تُحمّل (الآخر) آلامنا وآثامنا كثيرة جداً، فلسنا من الدعاة إلى القول بمنع هذه التقنيات وحجبها عن الشباب، وإلا كنّا كالنعامة التي تدفن رأسها في التراب، وأذكرأن قناة أو تي في عرضت تقريرا عن القنوات الفضائية في إيران، وتحدث بعض الشباب الإيراني فيه من مدينة (قم) قائلين أنهم يشاهدون سراً القنوات الممنوعة من السلطة، مما يجعلنا نعتقد ان الدعوة للمنع أمراً عديم الجدوى، هذا إنْ لم يأتِ بنتائج معكوسة.
من هنا تستدعي هذه المشكلة أن نطرح قضية الثقافة كحل جميل وساحر.. كطاقة إبداعية، كمساحة داخل البث الفضائي ندعو الى توسيعها وزيادة فاعليتها على التأثير في المشاهد العربي وتشكيل وعيه، بل وقدرتها على انتشاله من أوقات فراغه ومن برامج سطحية وتافهة، ربما تجعل المشاهد المراهق أو الشاب يتماهى معها كلياً لأنه غير محصن ضدها، أو ربما تدفعه إلى الإحباط والانزواء إلى ذاته، إو إلى الطرف الآخر من المعادلة وهو التطرف أو التشدد الديني. بالإضافة إلى ذلك فإن الثقافة لا تخدم المشاهد بالشكل الذي يحصنه من الاختراق أو الإحباط أو حتى إلى التطرف حسب، وإنما تجعله إنساناً قوياً وذكياً فاعلاً في مجتمعه وقادرا على التغيير وتبني مفاهيم الجمال.
ان الذي يقدم الثقافة على شكل برامج مشوقة ومسابقات عصرية مثل (شاعر المليون) و(من سيربح المليون)،لا يقلل برأينا من شأن الثقافه ،بل على العكس سيكون له الفضل الكبير في تحبيب الفنون الادبية أو توصيل المعلومة الى المشاهدين لأن الطريق الى الثقافة قد يبدأ بهذه الخطوات الأولية، ثم بعد ذلك يتصاعد الى ماهو أكبر وأكثر تعقيدا. وحبذا لو يساهم القائمون على الانتاج الفضائي العربي بزيادة هذا
النوع من البرامج الثقافية، وجعل الثقافة مشوقة وذات شد وجذب للمشاهدين وعدم عرضها في جزر كئيبة ونائية، لا يسمع فيها المشاهد سوى النظريات المتقعرة والمصطلحات المتصحرة، مما قد يجعلها في منطقة معزولة لاتصل اليها عيون الشباب ولا أرواحهم المتوثبة الى كل ما هو جديد.