د. فايز أبو شمالة
ماذا نفعل أكثر من الرصاص المصبوب! ماذا نصب على أهل غزة أكثر من ذلك؟ بماذا نخيفهم، ونردعهم، أهناك أكثر من الموت المصبوب؟ ماذا تبقى أمامنا؟ يتساءل أحد الإسرائيليين في الإذاعة العبرية الساعة الثامنة مساءً، ويضيف ساخراً: لم يبق أمامنا إلا أن نلقي عليهم زبدة طرية حلوة كي نغريهم بالتوقف عن قتالنا.
جاء الحديث عبر الإذاعة العبرية مكملاً لحديث سبق في التلفاز الإسرائيلي، والمذيع يبدي عجبه من عودة الأوضاع على الحدود مع قطاع غزة إلى ما كانت عليه قبل اثنين وعشرين يوماً من حرب الرصاص المصبوب، ويتساءل: ماذا أنجزنا من هذه الحرب التي فضحت عورة الدولة العبرية أمام العالم، وكشفت عجزها أمام حفنة مقاتلين؟
لقد انتصرت غزة باعتراف أعدائها، وانتصر معها كل إنسان حرٍ مؤيدٍ لها، وارتفع شأنه بين قومه والعالم بدءاً من “شافيز” في فنزويلا، و”أردغان” في تركيا، وحتى الأمير “حمد آل ثاني” في بلاد العرب، لقد انتصر الإسلام بنصر غزة، وانتصرت غزة بالإسلام الذي جهز الإنسان المؤمن، والمقتنع بحمل روحه على راحته راضياً، مستبشراً دون تردد، انتصرت غزة بالعقيدة التي بنت الإنسان قبل أن تبني القاعدة العسكرية التي سينطلق منها، وقبل أن تأتي بالسلاح الذي سيقاتل فيه، انتصرت غزة بطلاب الشهادة، وقصصهم التي صارت أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، ولمن يتشكك، ولمن لا يزال لا يصدق، ويحسب أن المقاومة رتب عسكرية، ونجوم تتدلى على الأكتاف، ورواتب في آخر الشهر، ونثريات، ومصروفات، إليكم قصة شاب من خان يونس يسعى إلى الزفاف: فبعد أن قضى الشهيد “عمر أبو عكر” نحبه، وواره الثرى، لم يبق إلا مساحة قبر إلى جوار قبره، فجاء بعد حينٍ من يحفر فيها ليواري جثمان شهيد آخر. ولكن والد الشهيد عمر قال لهم: المكان محجوز؛ لقد استحلفني بالله أحد أصدقاء ابني “عمر” أن أحجز له هذا المكان، كي يدفن فيه بعد أن يمن الله عليه بالشهادة، ويلتحق بصديقه “عمر”، وقد وعدته بذلك، اتركوا هذه المساحة قبراً له، فما زال يهاجم الموت، ويلاقيه في الميدان، والموت يفر من أمامه، فلم يحن موعد الزفاف.
هذه هي غزة يا “إسرائيل”، وهذه حقيقة رجالها المقاومين، ومطامع دنياهم، وغايتهم، وأمانيهم التي تغرس سهامها في صدر كل متشكك في نصر غزة، وفي تاريخ فلسطين الكرامة، فلسطين التي خيبت ظن المنسقين، وأوجعت بنصرها الكارهين الحاقدين، وألجمت لسان المفاوضين الخائبين الخاسرين الخائرين، والمستسلمين لعدو عُتلٍ زنيم.