البعض قد سمع او لم يسمع بالمواطنة الكويتيه لطيفة الرزيحان.
كلمة مواطنة هنا ,علامة فارقة الى انها خليجية ,كون ان كل من هو خليجي مواطن, وكل من هو غير خليجي اجنبي ,هكذا جرت عادة العرب بعد البترول من المحيط الى الخليج.
ساجرد هذه المرأة من كل الالقاب والمسميات ,لاقترب منها واناديها ب”لطيفة” … لطيفة فقط.
لقد ” أبت ” لطيفة الا ان تدين وتستنكر مواقف بعض النواب الكويتين المؤيدين لحركة حماس قائلة:” ان بعض اعضاء مجلس الامة الكويتي يبيعون من خلال تايدهم حركة حماس دم الشهداء الكويتين الذين ضحوا بارواحهم فداء لتحرير وطنهم من الاحتلال العراقي ,بأبخس الاثمان “..داعية النواب الى :”تقوى الله في وطنهم الكويت والكف عن جمع الاموال من المواطنين لارسالها الى (حركة الخونة) في فلسطين ” ..ويذكر ان المهرجان اقيم تحت شعار “غزة. انتصار..شكر واعمار”..الى هنا اكتفي بنقل الخبر .
تسمرت امام الخبر والصورة,ولجمني تخبط مشاعري بين الاستنكار والحزن ,وبين التعاطف والرفض ,بين الصرعة والهدوء..من يلومني ؟..من يلومها؟.
خبر صريح واضح ,وردة فعل مرتجلة ,عفوية ,لسيدة عربية تلبس الحجاب الاسلامي ,لم تخضع لترتيبات ولا لبروتوكولات الكياسة والسياسة وتحضيرات الاجتماعات والخطابات الرنانة..انه غضب الالم!
طبعت الخبر والصورة على ورقة ,واخذتها بعيدا عن المواقع والتعليقات ,لاجلس انا وهذه السيدة المجروحة المتالمة ,بعيدا ,انا وهي فقط ,اتمعن بتفاصيلها ,وادقق بتعابيرها,واستحضر الغضب المرسوم في عيونها وحركات جسدها ,ولغة المكان والزمان حولها,وانتشار التعابير عبر مساحات اللون في الصورة …يا الله:ما هذا الغضب الحزين ؟..دموعي عبرت وسكوني اطبق ..يا الله :كن معنا جميعا.
“لطيفة”:سيدة في منتصف العمر تقريبا ,ربما انا وهي في نفس العمر ,او قريبا منه,ولا بد انها ام لابناء وبنات لم تسنح لهم “مفاهيم العروبة ” ان يلتقوا بخالهم ,الذي فقدته امهم في الاجتياح عام 1990.
سواد ملابسها وغطاء راسها ,يحمل نفس لون الحزن الرابض فوق كيانها ,ما فارقها طوال تلك السنين..انه بعمر الشباب ,في التاسعة عشر..لم يشخ بعد ولم يهرم.
اما وشاحها :فهو بلون الدم الذي لا يزال ينزف من ذلك الجرح الحزين ..انه احمر!..اما شالها الابيض الذي لوحت به ,فهو انتشار لهذا الحزن الساكن ..وتعبيرا واضحا عن الرفض ,ودعوة لتركيز الانظار على جدار الغضب الداخلي الذي بنته في وجدانها ,استنكارا لفقدان اخيها ,رفيق البيت والملعب.
ادعوا الله ان يكون في عون هذه السيدة وعون نساء الامة على ما فقدن,انه اخاها ابن امها وابيها,رفيق طفولتها,واحق الناس بالعبث بجديلة شعرها..وشدها ليثير حنقها!!
انه مشهد عربي يحمل هم الامة وجراحها وقهرها وتشرذمها ,بمسميات وطنية مختلفة ,باختلاف ادوات القطع والبتر والقتل ,ونفس التقاء الالم والنزف والغضب.
أعلن ولائي للطيفة ..ليفوق كل الولاءات الوطنية والاقليمية وحتى العربية ,ليفوق كل ولاءاتي للقادة العرب باختلاف مملكاتهم وجمهورياتهم واماراتهم.
اهتمامي بجرح لطيفة ,يفوق اهتماماتي بالاتفاقيات والمباحثات والقمم العربية ,انه الاهتمام بالجرح العربي والغضب العربي فوق الارض العربية والاسلامية وتحت سماءها.
الجرح الذي سكن قلوب النساء العربيات ,وجعل صراخهن يملأ ارجاء الارض استنكارا وتعبيرا صارخا ,يلسع الوحدة ويقتل التضامن وينسينا انفسنا,في هم رتق الجراح وجمع الكلمة.
اعود واقرأ كلمات لطيفة بأحرفها العربية وبمعانيها التي اختلفت اختلاف المكان والزمان .
لطيفة قالت:”غزة”..في غزة جراح اكبر ينزف واشلاء تناثلرت واجساد احترقت ونساء جمعن اشلاء اولادهن واحبتهن في صرر..كصررحاجات الهاربين من الاحتلال عام 1945وعام 1967 في فلسطين وكصرر العراقيات الهاربات من الاغتصاب عام 2003.
لطيفة قالت:”زبالة”..انها نفس الكلمة التي استخدمتها طفلة غزة التي رمت العابها وملابسها بالزبالة ,لان رائحة عصف البارود قد اتلفها وتركت رائحة الموت حولها.
لطيفة قالت:”خونة” ..هم من يقدمون اجساد الشرفاء ليضعوها فوق المشانق ,مقابل حفنة دولارات ,وهم من احاط رقاب القتلة والمجرمين بقلائد الذهب والاوسمة ,وهم من دخلوا بغداد فوق الدبابات الامريكية ,وهم من يضعون قطع البث الالكترونية على سيارات وبيوت المجاهدين لتقصفها طائرات الاباتشي الاسرائيلية ,,وهم ..وهم …ماذا اخبرك ..انهم كثر…ما اكثر الخونة فوق الارض العربية!
لطيفة قالت:”باعوا الاوطان”..انها نفس الكلمات التي تعبر عن معاني الاتفاقيات المعلنة والغير معلنة ,وصفقات البترول والانبطاح العربي لثقافة الغرب ومناهجه التعليمية وركضنا المسعور خلف الشعر الاشقر والعيون الزرقاء على حساب سمرة الجباه والسواعد العربية السمراء والعيون العسلية.
لطيفة قالت:”بخس الاثمان”..انه ثمن العربي المسلم في البورصات العالمية وفي ملفات الصناديق الدولية ..انه حقا ثمن الجرح العربي الذي لم تستطع الارادة العربية ان تتحرك لنجدته ,ورضيت بالدولار ليعوض ألفة الاخ للأخ ,وتضامن الحس والشعور والموقف مع الصمود والمواجهة ,انه ثمن صرخات الاستنجاد وطلب المروءة العربية عبر التاريخ العربي المعاصر والمصدوم بالذل والتخاذل.
في غزة والضفة ,في العراق والمغرب العربي,في الاردن والسعودية ,حتى في افغانستان وباكستان وتركيا,نساء أدمت قلوبهن ادوات القطع والبتر ,التي اختلفت وتنوعت بين هشاشة وحدة المصير واختلاف الفكر والاتجاهات بين مسمي
ات الفرقة والشرذمة والعصبية الجاهلية:سني شيعي, وطني اجنبي ,اردني فلسطيني ,و و…كثير كثير.
لقد غابت عنا كلمة الله,ليتسع الجرح وليزيد النزف..لقدغار الجرح وتعفن في القلوب فلم نعد نحتمل حتى مخارج الحروف العربية ,في اختلاف لهجاتنا وكتاباتنا..ومرجعيتنا “القران” واحدة!..غابت كلمة الحق ,فصدمتنا مشاعرنا باننا لا نحمل الا الكرة ولا نقبل الا بالاقليمية الضيقة وان نتمحور داخل حدود سايكس بيكو وقرارات الامم الامتحدة ,حتى تضخمت احزاننا وقبلنا بحالنا ونسينا اننا اموة محمد..امة لا اله الا الله.
لقد ادمتنا فرقة الاوطان والقلوب ,وحقرتنا الشرذمة واصمتنا عن سماع وجع الامهات ,فلا بغداد كفتنا ولا القدس غيرتنا ولا غزة علمتنا ,ان اليد التي قتلت وان اليد التي جرحت ونفذت ولا تزال تنفذ ليست اليد التي خططت.
اردنية انا ..وجذوري كركية تمتد عبر التاريخ ..وكويتية انت “لطيفة” بعدد حبات الرمل فوق الشواطيء الخليجية ..لقد قتلني حزنك يا لطيفة ..واغضبني غضبك.
اردنية انا فجعني صوت غزاوية تودع ابنها الذي تمزق اشلاء امامها :”فديتك للوطن يمة”
اردنية انا..لا يزال جسد الشاب الحسيني المجرور في شوارع القدس يتربع في ذاكرة وجداني .
مسلمة علربية كويتية انت ..داوي أخيتي جرحك ,واكتمي غيضك .
انا وانت ننتمي لأمة اسلامية ,عقيدتها التوحيد ,ورايتها المحبة والسلام والحضارة وكرامة الانسان ,قتلاها شهداء في الفردس…مصيبتها في ابناءها كبيرة ,عظيمة!
تعالي ,انا وانت أخيتي باقيات ..وكل هؤلاء راحلون ,بخزيهم وعارهم ,باتفاقياتهم وبزندقتهم ,ببترولهم ودولاراتهم ,انا وانت نساء هذه الامة باقيات ما بقيت النفوس الطيبة ..أخيتي :لن يبراء جرح الامة ,اذا لم يلتئم جرح لطيفة الرزيحان….صدقيني!!