يعد أن يانيس ريتوس الشاعر الأكثر تحكما بشعره الشخصية اليونانية ومحللها .. يوزعها على تفاصيل الأحداث اليومية , ويعطي الشيء حقيقته فيلون البيوت البيضاء ويسبغ على البحر حنين الإنسان وحبه للحياة. استمد شاعرنا الهادىء نظرته المتوسطية من التراث الهيللينيني الذي جعله يرث مكانه امتدادا لأمكنة جميلة في شواطيء لبنان وعذوبة مياه الاسكندرية وبعد مداها حيث آثار بصمات الشعراء والفلاسفة. لعله من الواضح من تاريخ ريتوس إنه واحد من كبار المؤثرين في الشعر العالمي وذلك في بداية وصول شعره المترجم إلى اللغة الفرنسية . ورغم تعرض شاعرنا على مواقف سياسية متعددة أدت إلى النفي أحيانا والسجن أحيانا أخرى إلا أنه تميز
عن رفاقه بأن شعره لم يقتصر على الأمور السياسية آنذاك ولم يتأثر بها بشكل غزير بل بقية متعددة النواحي متشعبة .إذا نظرنا من جانب آخر ليانيس ريتوس نراه يعبر عن القضايا بلوحة جميلة يرسمها بشعره بشكل مباشر , هذه اللوحة التي تؤلف حلقه للزمن غير منفصلة تربط بين الأشياء بحقيقة وامتياز فتراه يربط بين الشيء غير المتحرك ومصدر هذا الشيء ضمن الدورة الزمنية غير المنتهية لهذا الشيء .. فتبدو هنا سلفية ريتوس لهراقليطس في انسيابية الأشياء “انك لا تعبر النهر نفسه مرتين”ولكن ريتوس استطاع بقدرة فنية داخله إلتقاط صورة واحدة للحياة . وجمعها مع صورة انسيابها في نفس اللحظة بحيث نشعر بفكرنا إننا ندركها ولا ندركها نحس بها نفسها فيبقى احساسنا مثاليا لهذه الحركة من مطلقها .هنا يبدو لنا جليا بأن ريتوس يملك قدرة هائلة في اللعب بالصور الشعرية الذي استطاع بهذه الحيلة الذكية الجمع بين الزمن – الشيء –الحركة تلك القدرة التي لعبت دورا هاما . بالثأثير على الشعر العربي المعاصر وخلقت به لونا جديدا انتهل منه كثير من الشعراء العرب عدا عن أن ريتوس كان أقرب شاعر غربي للشرق وكذلك باعتباره شاعر متوسطي هيلليني . وتأثر شعر العرب بشعره أيضا عندما انتقلوا بصورهم من العام إلى الخاص ومن الشيء المجرد إلى الملموس. وإذا ما طرقنا ريتوس من ناحية شعوره للعرب .. نرى أنه مساندا لقضية العرب , عن طريق تأييده لحق الشعب الفلسطيني وبقائه بأرضه وجاء ذلك ممسا من شعره المنشور بين نشاط الثقافة منذ السبعينات وكان ذلك بمعظمه منقولا عن الفرنسية وقليلا منه عن اليونانية . كما ظهر عبر المقابلات معه وبعض من أعماله الكثيره. يانيس ريتوس : شاعر استخدم الخيال لم يتجاوز منطقية الحياة ووجوديتها , أستخدمه ليحاور من خلاله ذلك التاريخ الكائن في عمق الإنسانية وشرعية وجودها. أمتد هذا الإنسان المبدع بين أبعاد التاريخ والإنسان بين عراقة الاغريقي والأساطير القديمة المحكية بشكل منطقي او غير منطقي وبين المصدر الوجودي لقوانين الحياة. وكذلك بين أشكال النضال الوطني بعد تحرره من أنواع الاحتلال التي فرضت عليه – انكليزي . الألماني . أمريكي . عثماني. إن البساطة الموجودة في أعمال ريتوس وأنتاجاته الشعرية جاءت عن حقيقة تمحور الوجع الإنساني الكائن في التفكير الخاص لهذا الإنسان . هذا الذي يدفعنا للتعامل مع هذه الانتاجات المتعددة والجميلة بنوع من البساطة والرقة والعادية ولكن هذا لا ينفي عنه صفة الرمزية . فكل ما قرأت مرة ظهرت بها صور جديدة وكما ازاد الزمن على وجودها أكتشفنا بها خبايا رائعة واذا اتبعنا تجارب جديدة تستطيع إيصالنا إلى الصبغة الحقيقية لأعمال ريتوس نصل بالنهاية إلى قناعة بأن أبداعه يحوي قدرا ضخما من معالم الكون الغامضة . بدأ ريتوس رحلته الشعرية الطويلة منذ السنة الثامنة عشرة من عهره . وفي هذا العمر استطاع معالجة الموسيقى والرقص والرسم . وأنطلق أنطلاقة الشاب الطامح فبعد أن أنتهى من دراسته الثانوية , وذهب إلى أثينا تعرض إلى مغامرة وواجه أنواع القسوة والاستعباد أثناء عمله ولكنه رغم هذه الظروف وفي الوقت ذاته الف أولى مجموعاته الشعرية وهي “التراكتورات” عام 1934 و”الاهرمات” عام 1935. لقد جاء في الحقيقة – شعر “كوتشي بالماس” رائد الشعر الحديث (1859-1943) قبلا عن ظهور شعر ريتوس الذي ظهر بعد الحركة الشعرية في اليونان . وذلك الشاعر الذي مثل الشعر الحديث منذ عام “1888” أي بعد أستلام أثينا راس الحركة السياسية في اليونان عام 1833. إن إيمان ريتوس بالشعر وبالحياة كونه ينظر إلى ايمانه كضرورة إنسانية عميقة . فيرى بالشعر ذلك المنفذ الأساسي الذي يصل على حقيقة الأشياء ويطرق صلبها . وما زلنا إلى هذا الوقت نحن الطليعة المثقفة بين الجماهير البلاد العربية تقاسي بعضا من آلام ريتوس وعذاباته التي أعطت حياته مذاقا خاصا له طعمه الجميل والحزين بنفس الوقت . فكتب ريتوس عن آلام اليونانيين وعن مواقفهم ضد الاحتلال النازي وعن الحرب تحريرهم من عام 1944 وعن مقاومة الاحتلال الانكليزي , وعن تلك الحرب الدامية –الحرب الأهلية – (1944-1949) , وتشرد طويلا بين المعتقلات والمعسكرات وبين الجزر المتطرقة الوحيدة ونحن الآن ما زلنا نستعد بدورة تدريبية … لذلك قال يانيس ريتوس يصف الفترة النشطة في حياته . ” أنا مدين لتلك المغامرات التي صلبت عودي . كل القمع والتعذيب والضغوط دفعتني إلى محاربة الطغيان , وإلى الوقوف في مواجهته . زيادة على أنها رسخت أحساسا كامنا في داخلي بالتصدي وعدم الرضوخ والانهيار . أحرقوا كتبي وكان ذكر أسمي يعني جريمة يطالها القانون . غير أن تضامن الناس الصامت كان يأتيني عبر كل المسافات والحرس والنقاط التفتيش وجدران المعتقلات . كنت
أحس باللهاث الدافىء لصداقة , وأتقين أن قصائدي تأتي من هؤلاء الذين أدين لهم بكل شيء وهم غير مدينين لي بشيء” .الشاعر ريتوس جند وظيفته الأدبية والثقافية في خدمة قضايا وطنه , وأتخذ موقفا مشرفا ضد الحروب التي شنت ضد بلده , في حين نرى (مثقفو) الاحتلال العراقيون جندوا وظيفتهم في الموقع المناقض للحقيقة. ذلك الموقع الذي يفتقدون من خلاله إلى أبسط عناصر الحس الإنساني والإخلاقي. فهم مجرد بيادق صغيرة في ماكنة الكذب والدجل والتزوير الإعلامي التي اخترعتها آلهة العولمة الراسمالية , آلهة القطب الأوحد المتمثل بالمجازر والدمار والتعطش الدموي واحتلال الشعوب ونهبها . لذلك فان مواقفهم البعيدة عن كل فطرة إنسانية، تلك المواقف التي تخرجهم من قائمة حاملي الرسالة النبيلة والسامية لم تعد تفاجئ شعبنا العراقي والشعوب العربية . مع ذلك فإن تلك الواقعة تظل تقتل براءة وطهر وشرف وحياء وكرامة الوجود الإنساني . شاعرنا الكبير السياب كان يتساءل بعفة أيخون إنسان بلاده؟ . مثقفو الاحتلال خرجوا بالخيانة من نطاقها الوطني ليذهبوا بأفعالهم العاهرة إلى مفهوم الخيانة المطلقة. هؤلاء اليوم خونة لكل قيمة من شأنها أن تضع الإنسان في موضعه الحقيقي: الوريث الذي يعني وجوده الرفعة والكرامة والعقل والعلو والجمال والإباء والحنين إلى سمو الآفاق برأس مرفوعة في الشموخ . خيانة الإنسان هذه هي مزيج من مجموعة هائلة من الخيانات، الصغيرة والكبيرة . تغليب الطائفية والعرقية على المواطنة هي واحدة من أهم أفكار ثقافة الاحتلال. وفي حالة (مثقفي) الاحتلال العراقيين فان انحرافهم بدأ بخيانة الثقافة، الموقع الذي يشهد حراكهم التآمري الخبيث والقبيح . أبواق الأحتلال وقد تجمعوا وراء أسيادهم لا يرون من الحقيقة سوى الجزء الواقعي، الذي يعتقدون أنه يمدهم بشريان الحياة: الأحتلال الأمريكي في العراق وعملائه صار خشبة خلاصهم التي ما فتئوا يتشبثون بها و الآن تطل علينا الإبادة الجماعية الجديدة في فلسطين من النازية الصهاينة . ليس غريبا على من أن أستقوى من قبل بخيانته أن يظهر اعجابه بخيانة القوة لمبادئها. فالقوة هي الأخرى يمكن الانحراف بها لتكون مظلة للجريمة والإبادة الجماعية وتدمير حق الإنسان في العيش. وهذا ما يحدث في العراق تماما وما يحدث الآن في فلسطين. لقد كشف احتضان سلطة الاحتلال في العراق للأحزاب الدينية والعرقية والشيوعيين الجدد تحت مظلة واحدة عن واحدة من أكثر حلقات الخيانة انحطاطا. لقد عثر المحتل على كلمة السر: ليس لدى الشيوعيين العراقيين ولا لمنتسبي الأحزاب الدينية في العراق (وهي مؤسسات أيرانية) فكرة عن الوطن، أما فصائل الفلسينية فإنها تفكر بفلسطين. ليس لديها خيار آخر. وهو أمر مزعج، بل أنه أمر يدعو الى التشاؤم. هل يفكر الصهاينة بعراق آخر؟ لم لا. اختفى كنعان مكية بعد أن بكى على الشاشات بغنج ضياع حلمه (مثلما هو حال أحمد الجلبي)، ولكن هناك الآن من يرث مكانه. بالنسبة لهؤلاء الورثة المنغمسين في لذائذ خياناتهم فان البرابرة هم الحل الأمثل. لا لأنهم عثروا على ذلك الحل بعبقرية رؤاهم، بل لأن البرابرة أنفسهم فرضوا على خدمهم التبشير بهذا الحل. ريتوس .. رشح إحدى عشر مرة لجائزة نوبل للآداب . لكنه لم يحصل عليها ولا مرة . ويذكر التاريخ كلمة ل- بابلو نيرودا- عندما حصل على جائزة نوبل عام 1968″ أعلم تماما أن ذلك الاغريقي ريتوس يستحقها أكثر مني “. وجه ريتوس لوم على الأدباء العرب كيف لا تتم ترجمة نتاجاتهم الأدبية إلى لغات متعددة وهي تكتسب طابع النشر العالمي وتصبح أكثر انتشارا بين البلدان . وقال ريتوس كذلك عن رأيه في الشعر العربي ومدى ارتباطه بالآدب اليوناني : ” خضعت اليونان لتأثيرات ثقافية عدة من بلدان ما بين النهرين ومصر ولبنان , وبشكل عام تأثيرات عربية إلا أن الأسلوب الذي التقطت به اليونان كل هذه التأثيرات كان يونانيا , وطبع بطابعها وسماتها المتمثلة بعدم التعصب والخوف من أستقبال تلك التأثيرات والتعامل معها . مما سمح بإعادة تشكيل العناصر الأدبية الآتية من الشرق والغرب وربطها بأواصر تاريخية وحضارية . لذا أصبح الآدب اليوناني أكثر قدرة على تشكيل خصوصية وأسلوبه المميز في التعبير الحسي عن وجدانية الشعب اليوناني . والشعر العربي يبهرني بمضامينه الرائعة ومن خلال حفنة قصائد قليلة مترجمة إلى الفرنسية أو اليونانية أغراني الشعر العربي الحديث وروعة مفرداته ورهافة صوره . كشعر أدونيس والبياتي ودرويش وسعدي والجواهيري والمتنبي والرصافي والسياب والنواب على سبيل المثال” .
——————–
فاروق يوسف:غزة لا تنتظرهم