يوشك الاحتلال الأميركي، بوجهه الفاقع، على الرحيل من العراق. ثمة جدول زمني يُعد من اجل هذه الغاية. وثمة نصف هزيمة يتم الإقرار بها الآن.
لا تريد الولايات المتحدة، كما لا يريد عملاؤها، الاعتراف بدور المقاومة الوطنية المسلحة في الوصول الى هذه النتيجة. الطرفان يفضلان الإيحاء بأن الأكثر من 4000 جندي أميركي إنما قتلوا في حوادث سير، وان الأكثر من 50 ألف جندي جريح، إنما تعرضوا لإصابات بينما كانوا يلعبون كرة القدم في دوري “التقدم الأمني” الذي يقوده جنرالات الاحتلال.
لا بأس. فعدم الاعتراف بدور المقاومة، وعدم التفاوض معها، مفيدٌ بالأحرى.
أولا، انه يعفي جبهات المقاومة من الجدل الداخلي حول الجهة التي تتصدر التفاوض أو تضع شروطه.
وثانيا، انه يعفي المقاومة من أي التزامات مع الولايات المتحدة. وهو ما يدعم الأساس القائل: “باطلٌ، كل ما بني على باطل”، في ما يتعلق بكل تركة الاحتلال.
وثالثا، انه يمنع الولايات المتحدة من أن تكون طرفا تفاوضيا في تقرير مستقبل العراق. فـ”انسحابها” المعلن يجعل منها طرفا “غير ذي صلة” في تحديد نوع الحكم أو سياساته الإقليمية أو خياراته الاقتصادية.
ولو كان جائزا، فالمقاومة يجب أن تشكر الولايات المتحدة على هذه “الخدمات”.
ولكن بقي النصف الآخر.
فبعد رحيل الجزء الفاقع من وجه الاحتلال، فان ما سيبقى هو الاحتلال بما يسمى “قوات غير قتالية”. أي بوجود جيش يعمل في الخفاء لإدارة السلطة والعمليات العسكرية ضد المناوئين للاحتلال، ولحماية الامتيازات النفطية التي تستولي عليها الشركات الأميركية، من دون أن يقال عنه انه “جيش احتلال”.
وهذا ليس سوى “احتلال تقيّة”.
ما تفعله الولايات المتحدة هو أنها تريد لاحتلالها أن يقتفي أثر الاحتلال الإيراني. فمثلما تواصل إيران احتلالها للعراق بواسطة أذرعها داخل المليشيات والأحزاب الطائفية، ومثلما تتسرب قواتها المقاتلة و”غير المقاتلة” في كل أرجاء الدولة العراقية، ومثلما تقدم “معونات” تمتد من العمامة الى شاحنات القمامة، فان الولايات المتحدة تريد أن تفعل الشيء نفسه.
عمليا، ثمة جيشٌ إيراني يعمل تحت جناح المليشيات التابعة لأحزاب الائتلاف الحاكم. ويمارسُ جيشٌ جرارٌ من أجهزة المخابرات الإيرانية كلَّ مهام الدولة الرئيسية.
الأميركيون يرون ذلك. ويدركون أن هناك احتلالا آخر يشاطرهم الاحتلال. ولكنهم يعرفون أنهم هم الذين يدفعون الثمن الأكبر. فعدا عن الخسائر البشرية الباهظة، فهناك خسائر مادية ضخمة أيضا، تقدر بنحو ملياري دولار كل أسبوع.
ما يريده الأميركيون، وهم يرون “فاعلية” الاحتلال الآخر، هو أن يوفروا على أنفسهم الخسائر، لعلهم، بقبول نصف الهزيمة، يحمون أنفسهم من نصفها الآخر.
وحسنا فعلت المقاومة الوطنية المسلحة بالتركيز، طوال السنوات الخمس الماضية، على قوات الاحتلال.
كان يجب هزيمة النمر، وإثبات انه من ورق، قبل الالتفات الى هزيمة الضبع الذي يختفي وراءه.
لكن تحوّل الاحتلال المعلن الى احتلال “تقيّة” يُملي على المقاومة أن تضيف الى استراتيجياتها القتالية إستراتيجيات جديدة.
الجمع بين الأعمال القتالية المألوفة وبين التغلغل في كل ما يتاح التغلغل به أصبح اليوم خيارا لا مفر منه.
فالمقاومة السرية من داخل الدولة والأحزاب بل وحتى المليشيات، والقتال من خلال أطر سياسية “مستقلة”، لا يقل أهمية اليوم عن القتال بالقذيفة والعبوة الناسفة.
وهذا واجب. وإفساد متعة الزواج بين الاحتلالين واجب آخر.
لقد آن الأوان لكي تدفع إيران الثمن. ثمة حاجة الى أن يفهم الإيرانيون أن احتلالهم ليس رخيصا.
تصفية الحساب مع عملاء إيران في العراق ليست كافية. يجب تصفية الحساب مع إيران نفسها أيضا.
امتداد المواجهة الى داخل إيران أصبح شرطا لازما للتحرير. فما لم يشعر الإيرانيون بان الحديدة صارت حارة عليهم، فإنهم سيواصلون زواج المتعة مع الأميركيين، وسيواصلون المضي قدما في مشروعهم الطائفي المشترك.
هناك حاجة حقيقية لدعم نضال الأقليات الإيرانية المُضطَهَدة. فالحرب التي يخوضها النظام ضدها، بالكاد تكشف عنها الإعدامات الجماعية للمناضلين المتهمين بالإرهاب. وحسبنا إن مساندة كفاح هذه الأقليات بالدعم المادي والخبرات، يقدم مساهمةً ضرورية للقول أن “زواج المتعة” مع الأميركيين لم يعد ببلاش.
كما أن هناك حاجة لإلحاق الضعف ببعض المفاصل الاقتصادية المهمة. فانخفاض أسعار النفط، الى جانب التضخم الصاروخي وارتفاع معدلات البطالة، يمكن أن يدفع الاقتصاد الإيراني الى الهاوية، ويعزز فرص انهيار النظام.
وما لم يشعر الفرس بامتداد الخطر إليهم على المستوى القومي فإنهم لن يكفوا شرورهم عن الآخرين. وهم إذا كانوا نجحوا في إملاء هيمنتهم بفضل المشروع الصفوي، فالسبيل الوحيد لوقف مخاطر هذا المشروع هو هدمه في عقر داره بالذات.
معروف تاريخيا أن الفرس استخدموا المذهب الشيعي ذريعةً لكي يفرضوا سلطتهم على الأقليات القومية الأخرى في إيران.
وتحت ستار “حب آل البيت” المزيف، قهروا تلك الأقليات وفرضوا المذهب الشيعي عليها.
وبفضل أعمال القهر صار الشيعة يمثلون 80% من مجموع السكان.
من دون ذلك، فان الفرس الذين يشكلون اقل من نصف مجموع السكان، ما كان بوسعهم أن يحكموا إيران، ولا أن يحافظوا على وحدتها.
لقد كان الهدف من المشروع الصفوي هو توسيع القاعدة الاجتما
عية التي يتحرك القوميون الفرس داخلها. ففي مواجهة الأقليات السنية، صار بوسعهم القول أنهم يمثلون 80% من السكان. وفي مواجهة ضحاياهم الذين قبلوا المذهب الشيعي، هم أغلبية أيضا.
من نافلة القول أن التشيع الإيراني هو مجرد نفاق سياسي وخدعة قومية، لا علاقة له البتة بآل البيت.
وخير من يمكن أن يواجه هذا التشيع المنافق هم الشيعة العراقيون، وأحفاد آل البيت الحقيقيون. فهؤلاء عرب. وأشقاؤهم السنة عرب أيضا، وينتسبون أحيانا الى عشيرة واحدة. ولهذا السبب فليس وراء تشيّعهم تطلعات قومية.
الفصل بين هذين النوعين المتناقضين من التشيّع أمر مهم في معركة عزل الاحتلال الإيراني، ومنعه من “توسيع القاعدة الاجتماعية” التي يعتمد عليها عملاء إيران في العراق.
بطريقة أو أخرى، الاحتلال الإيراني يجب ألا يبدو رخيصا.
على امتداد السنوات الخمس الماضية كان الاحتلال الإيراني للعراق يتغلغل بين ثنايا الاحتلال الأميركي.
اليوم تنقلب الآية. الاحتلال الأميركي هو الذي يريد أن يتغلغل في ثنايا الاحتلال الإيراني. وكلاهما يريد أن يكرس نفوذه من خلال “احتلال التقيّة”.
سواء اعترفت الولايات المتحدة أم لم تعترف، فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أن العراقيين كسبوا نصف المعركة مع واشنطن.
النصف الآخر موجود في طهران.