عبد الدائم السلامي
لا أحد يُنكرُ أنّ برنامجَ “شاعر المليون” قد تحوّل، خلال فترة وجيزة، من مشروع فنّي تلفزيونيٍّ إلى ظاهرةٍ ثقافيّةٍ عربيّةٍ. إذْ، لفت إليه انتباهَ النُقّادِ والمُتابعينَ منذ دورته الأولى لأسبابٍ عديدةٍ منها بالخاصّة توظيفُه الإعلامَ الفضائيَّ لإحياء “ديوان العرب” وفكُّ عُقالِ ألسنةِ الشعراء تصدَحُ بالواقعِ تخييلاً وتحليلاً. وهو ما نراه ذا أهميّة كُبرى في مرحلةٍ تعيش فيها ثقافتُنا العربيةُ تهميشًا مدروسًا تبنَّتْه بعضُ الفضائيات التي لا تبثُّ لمشاهديها إلاَّ أخلاقَ الرّقصِ العاري من الحياءِ أو رُكوبَ البحثِ عن الحقيقةِ للزجِّ بالمشاهِدِ في دهاليزِ الوهمِ وتمييعِ ذوقِه الفنيِّ والأدبيِّ والسياسيِّ.
ولعلَّ نجاحَ هذا المشروعِ يعودُ في قسمٍ كبيرٍ منه إلى تَبَصُّرِ القائمين عليه بعناصر واقعنا الفكريِّ العربيِّ واعتبارِ الكلمةِ شرارةً تقدَحُ صمتَ الهِمَمِ والعزائمِ مَا يُمكِّنُ من بناءِ عقولٍ جديدةٍ قادرةٍ على الفعلِ في الحضارةِ الإنسانيّةِ. وهو أمرٌ جعل أعضاءَ لجنة التحكيم في “شاعر المليون” نجومًا جاوزوا في شُهرتِهم نجومَ الفضائياتِ الذين يلوك أغلبُهم وقتَ المُشاهِدين ويبيعُهم هواءً خُواءً لا يُدِيرُ حتى طواحينَ “دُونْ كيشوتْ”. ذلك أنّ هؤلاء الأعضاء، وهم من خيرةِ الشُّعراء، راحوا يؤسِّسون لقصيدةٍ عربية جديدةٍ من خلال ما يقدِّمون من ملاحظاتٍ وتوجيهاتٍ للمشاركين في المسابقةِ، قصيدةٍ تحترمُ مَنْطِقَ اللغةِ فصيحةً كانت أم محكيّةً، وتُراعي أشراطَ الجودةِ الفنيّةِ من حيث بناءُ الصّورةِ والتجديدُ فيها وهندسةُ الألفاظِ في تضامِّها الشكليِّ.
“بدر صفوق” واحدٌ من أعضاءِ لجنة تحكيم برنامج “شاعر المليون”، اختارَه المشرفون على هذه التظاهرة الفكريّة لكونه مبدعًا صالتْ قصائِدُه في منطقة الخليجِ العربيِّ وجالتْ في خواطِرِ المتلقّينَ أحلامًا دافئةً حينًا عاصفةً أحيانًا أخرى. وهو إلى ذلك شاعرٌ يتوفَّرُ على مَيْزةٍ راحت تنقَرِضُ من ساحتنا الأدبية والشعريّة: إنّها الجُرْأةُ في قولِ الحقِّ.
كان يمكن، مثلاً، أن يكتفيَ بدر صفوق بنحتِ قصائِدِه والتغنّي بها جوّالاً يفوحُ من ألفاظِه شَميمُ الفكرِ البَدَويِّ الذكيِّ، وكان يمكنُه أيضًا الاكتفاءُ بالظهورِ الفضائيِّ وهو يُقدِّمُ ملاحظاتِه القيِّمةَ بشأن القصائد المُشارِكةِ في المسابقةِ، ويظلُّ شاعِرًا نجمًا. ولكنَّ إيمانًا منه بأنّ الشاعِرَ لسانُ قومِه في حربِهم وسِلْمْهم وفي مُقامِهم وتِرْحالِهم، إضافةً إلى غيرةٍ منه على أوضاعِ واقعه العربيِّ المأزومِ، جعلاه يُبدي رأيَه في إحدى قضايا أمّتِنا بِصِدْقيّةٍ تقومُ على كثيرٍ من تبصُّرِ الموجودِ وتتغَيَّا استشرافَ الآتي. فرأى، وهو حقٌّ يضمنُه له انتماؤُه إلى أمّتِه، أنّ “دولةً إقليميةً” كانت وما تزال تقوم بدورٍ مشبوه في تغذيةِ الخِلافِ في الوطن العربيِّ وبثِّ التفرِقةِ بين زعاماتِ أقطارِه وحثِّ بعضِ التابعين لها على إشعالِ نار الفتنةِ تحت مُسَمَّياتٍ تحريضيّةٍ عديدةٍ. رأيٌ لم تقبَلْه الدوحةُ، ورأتْ فيه إشارةً إليها، وتلميحًا إلى سياستِها الخارجيّةِ. والحالُ أنّ فهمًا بسيطًا للدلالةِ السياسيّةِ لعبارة “دولة إقليمية” يُنْبِئُ عن أنّ الشاعرَ يعني بها إيران. وهو رأيٌ قد يختلِفُ فيه البعضُ منّا مع الشاعر ولكن علينا احترامُه في إطار إيماننا بأنّ في الاختلافِ رحمةً. ولمّا عادَتْ دولةُ قطر إلى تصريحِ بدر صفوق تنخُلُه نَخْلاً، وجدتْ فيه إدانةً لدورِ إيرانَ في منطقتنا العربية، فنصّبتْ نفسَها مُحامِيًا لها ناطقًا رسميًّا باسمها، ومن ثمّةَ أعلنتْ بعضُ الجهاتِ فيها رفضَها لتصريح هذا الشاعر وأشادتْ بمساهماتِ إيران في الدِّفاعِ عن “الحقِّ العربيّ”.
وهنا نتساءلُ: هل نسيتْ الدوحةُ أنّ هذا العصرَ يحتمل الرأيَ والرأيَ الآخر، وأنّها، برفضِها لرأي هذا الشاعر الكويتيّ، تنقُضُ “طهارَةَ” ما تدعو إليه في وسائلِ إعلامِها من حقِّ الاختلافِ في وجهاتِ النظرِ لا بل وتهدمُ جهودَ ما راحتْ تؤسِّسُ له برامِجُ بعض فضائياتِها وكأنّه الفَتْحُ المُبينُ في هذا المجالِ؟ مَنْ خوّلَ للدوحةِ حقَّ الدِّفاعِ عن إيران؟ هل تحوّلت قطر إلى “مكتب إعلامي” إيراني يبحثُ في ما يُنشَرُ من التصريحاتِ والأقوالِ عن نوايا أصحابِها إزاءَ طهران؟ ثمّ هل أنّ غاياتِ الجهاتِ التي دفعت بالدوحة إلى مهاجمة تصريح الشاعر بدر صفوق تقفُ عند أبوابِ الشِّعْرِ لا تتعدّاه إلى السياسةِ؟ أليسَ حَرِيًّا بتلك الجهاتِ أن تتخصًّصَ في بحثِ تفاصيلِ السياسة القطريّة حتى تُجوِّدَ من فاعليتِها ومردودِها “القوميِّ” وتمنعها الانزلاقَ في مسرحية “الضحكُ مع الذّئاب والبكاءُ مع الراعي” وتضيعُ منّا شِياهُنا؟