خلال الأيام الماضية، ثارت زوبعة في الأوساط الإعلامية على إثر تراجع قناة البي بي سي البريطانية عن قرارها بث نداء إغاثة غزة، وهو إعلان مدفوع الأجر من قِبل منظمات ومؤسسات خيرية وإنسانية لجمع التبرعات لقطاع غزة المنكوب جراء العدوان الإسرائيلي عليه طوال الأسابيع الماضية. وكانت القناة بررت موقفها عبر بيان أصدرته، قالت فيه أن القرار تم اتخاذه من أجل “تفادي خطر زعزعة ثقة الرأي العام في حيادية البي بي سي بالنسبة لقصة إخبارية ما زالت متواصلة”. وأكد البيان “وعلى الرغم من ذلك سنظل بالطبع نتابع الوضع الإنساني في غزة”.
موقف وزير التنمية الدولية دوجلاس أليكسندر جاء مفاجئا، إذ أعرب عن أمله في أن تعيد وسائل الإعلام البريطانية ومن ضمنها البي بي سي النظر في تراجعها عن بث نداء غزة، نظرا لـ “المعاناة الإنسانية المستمرة” التي يشهدها القطاع.
إلى جانب تعهد الحكومة البريطانية بتقديم مساعدات إغاثية للقطاع قيمتها 30 مليون جنيه إسترليني.
مراسل صحيفة “القدس العربي” اللندنية الزميل بسام بدارين يؤكد أن موقف أليكسندر “سياسي بحت”، إضافة إلى أنه يعده موقفا للحكومة البريطانية “وليس موقفا إنسانيا”.
ويبرهن على ذلك بـ “رغبة الساسة البريطانيين استدراك المشهد السياسي حاليا، وخصوصا ما يتعلق بمبادرة حلف الأطلسي ومراقبة الأسلحة على حدود القطاع وكذلك إعادة الإعمار”.
رئيس تحرير جريدة العرب الأسبوعية في لندن غسان إبراهيم يقول “موقف إليكسندر ليس تحولا بريطانيا سياسيا”، معللا “إذ إن البريطانيين يعتبرون علاقتهم مع إسرائيل فوق كل اعتبار”.
غير أن إبراهيم يرى بأنه بغض النظر عن سبب هذا الموقف الرسمي، فإنه “لن يُحدث تغييرا يُذكر لدى وسائل الإعلام البريطانية”، لأن لدى الإعلام الغربي “استقلالية، لا تتيح المجال للضغط عليه”.
ويسوق الباحث د. فارس بريزات نسبا استطلاعية أفصحت عنها بعض وسائل الإعلام، ومنها أن 21% من سكان العالم يرون أخلاقيات السياسة البريطانية فوق المتوسط، فيما رأى 17% منهم أن أخلاقيات السياسة البريطانية دون المتوسط، وهو ما يشير بحسبه إلى أن “الرأي العام العالمي يرى بأن هنالك أزمة أخلاقيات سياسية”.
ويستغرب رئيس مركز حماية وحرية الصحافيين نضال منصور من إحجام البي بي سي عن بث نداء إغاثة غزة، مفندا ادّعاءاتها، بِقول “حملات الدعم الإنساني لا تخلّ بصورة المؤسسات الإعلامية؛ ذلك أنها تركز على الإنسان، ولا تروّج لحدث أو تطلب دعما سياسيا لحماس”.
وما يزيد من قناعة منصور هو أن نداء الإغاثة الآنف “مدفوع الأجر من قِبل المعلنين”، لذا فإن بثه لا يؤثر على حيادية القناة، بحسبه، لأنه يتبع “مبدأ الإعلان وليس الخدمة”، بحسب بدارين أيضا.
بدارين يذهب لوصف البي بي سي بـ “المنحازة للمشروع الصهيوني”، مردفا “لا ينبغي أن تكون الحيادية والموضوعية شعارا للمشاركة في الجريمة”.
ولا يستغرب بدارين هذه التوجهات، إذ يقول بأن السفير الإسرائيلي وأركان سفارته في لندن كانوا “مرابطين في مبنى البي بي سي الرئيسي ليلا نهارا طوال أيام الحرب”، لبث أفكارهم ومواقفهم، فيما لم يتواجد هنالك أي سفير أو شخصية عربية للحديث عما يجري في غزة، بحسبه.
ولا يرى بدارين أن السفراء والشخصيات الإعلامية العربية في لندن هم المقصرون فحسب، بل وكذلك “وسائل الإعلام العربية في لندن وخصوصا تلك السعودية”، ما يحدوه لوصف ذلك بـ “خسارة الإعلام العربي في لندن جولته أثناء الحرب على غزة”.
منصور يرى بأن أحدا لم يقيّم ويحلل موقف الإعلام الغربي طوال أيام الحرب، ما يجعل الحكم على حياديته منقوصا، برغم أنه يلمح إلى الانطباع العام الذي يصمه وهو “عدم أدائه الدور المناط به في نقل وقائع ما يحدث في غزة”.
بريزات يؤكد، في سياق الحديث عن الحيادية الإعلامية، على مصطلح “النسبية”، مقراً بأن “الوقت الذي خُصّصّ لعرض مشاهد المجزرة الغزية على القنوات الغربية كان أقل بكثير مما يستحقه الحدث”، وبالمقارنة أيضا مع المشاهد التي دأبت على تصوير المتضررين الإسرائيليين جرّاء صواريخ حماس.
بريزات يسوق مبرر أحد المحررين السابقين في قناة البي بي سي والذي كان قد أعلنه على إحدى الفضائيات الإخبارية الجمعة، وهو أن قناته “تقع تحت ت
أثير اللوبي الصهيوني”، ما يجعل، من وجهة نظره، تذرّع البي بي سي بالحيادية “أمرا غير ذي معنى”.
أثير اللوبي الصهيوني”، ما يجعل، من وجهة نظره، تذرّع البي بي سي بالحيادية “أمرا غير ذي معنى”.
وكانت صحف بريطانية عدة ناشدت، في أعدادها أمس، قناة البي بي سي التراجع عن موقفها تجاه بث نداء إغاثة غزة.
صحيفة “الأوبزيرفر” أشارت إلى أن هذا القرار “اتخذه إداريو القناة وليس صحافيوها”، متسائلة عن المبدأ الذي استندت إليه البي بي سي في اعتبارها هذا النداء منافيا للحيادية.
“الإندبندنت أون صنداي” تحدثت عن تخوّف القناة من أن يكيل إليها الإسرائيليون تهمة معاداة اليهود، مفندة ذلك بِقول “هذا التخوف لا معنى له، لأن إسرائيل وأنصارها تعودوا على توجيه هذه التهمة لكل من ينتقد سياستها مهما كان النقد معقولا”.
صحيفة “الصنداي تلجراف” قدّرت حرص البي بي سي على حياديتها، بيد أنها استحضرت يوما خصصت فيه تبرعات للفقراء تحت شعار “اجعلوا الفقر شيئا من الماضي”، كما حاولت تذكيرها أيضا بأن العالم “لا يريد من إيران أن تستحوذ على إغاثة غزة”.
وعلى مدار عقود طويلة شكّلت بريطانيا حالة خاصة بالنسبة للفلسطينيين تحديدا، إذ هي من انتدبت أرضهم زهاء ثلاثين عاما، وهي من غضّت النظر عن المجازر الأولى التي ارتكبتها طلائع العصابات الصهيونية في العام 1948، لتُسلّم بعدها مقاليد الأرض الفلسطينية ومن عليها إلى الاحتلال الإسرائيلي الذي ما يزال رابضا حتى اليوم.