أنا العاشق، اليوم وغدا، ومنذ أن تعلم قلبي كيف يخفق، كيف يضخ كل ما يملك من دم مرة واحدة. منذ وُلِدْت وحتى اللحظة الأخيرة من حياتي. أنا عاشق وحبيبتي اليوم غزة. مدمرة، مذبوحة، منهكة، مغتصبة، راقصة، مصلية، حزينة، مفطورة القلب، حادّة بعد كلّ هذا الموت، باكية، مصلوبة عند حدود التاريخ وصفحات الجغرافيا الممزقة، أحبك يا غزة.
كنت أرقد وكأس من الشاي يندلق دافئاً في جوفي، كنت أحاول أن أنغلق، أن أبتعد عن واقعي الرتيب. وعلى حين فجأة، تناثرت أشلاء القصيدة، انكسر القلم، وامتزج طعم الدم والشاي في فمي. كتمت دمعة فانهمرت دموع. كتمت صرخة، فامتلأ فضاء روحي بالصراخ. همس في أذني بن زياد، قال طارق: البحر أمامهم والعدو في كلّ مكان. والخيارات لا تتعدى الموت وقوفاً، وجلوساً. وبكى ملاك الموت، كاد أن يستقيل، كاد أن يعترض، كاد أن يصبح إنساناً، كاد أن يفدي الطفولة المسلوخة في غزة بالخلود .. عندها انتحرت البراءة، وأضحى الرضيع شيخاً، وشربت عروس الأمس مياه آسنة، اختلطت بدماء أخيها، وزوجها فقد معالم وجهه، بعد أن تاه الطريق عن الحياة.
كنت أراقص طيف امرأة، حين قفزت طائرة مقاتلة من نافذة أحلامي، قتلت كلّ ما أملك من غبطة وابتسامات، تركتها للغد، تركتها ليوم أسود. اعتذرت من أعلام الطرب، انقطعت أوتار العود، وبحّ صوت العندليب، لم يكمل مواويله، ولم يغيّر المذيع من نبرة الصوت إلا قليلاً، طأطأت رأسي، وتسامت هامة غزة، طأطأت رأسي، لعل العاصفة تمضي، عندها ناجتني أرواح الصغار، عانقتني يا أمي أرواح غزة، قبل أن ترتقي إلى بارئها، مرت بطيفها الشاحب فوق جبيني، والأسئلة تتوالى، كانت تريد البقاء في محيط الدنيا، لم تدرك بأنها قد ماتت؟ لم تملك من الوقت ثانية واحدة للوداع.
ما بال رام الله لا تنكس أعلامها؟ دوى الهشيم في قلب الدوحة والقاهرة ودمشق والرياض وعمان. دوى الحطام عند أضرحة الأنبياء، ولم يرتجّ (كرش) امتلأ بنخب النبيذ المعتق، ورجع الكلام صمت مخيم. دوى الهشيم في قلوب الأجنة، فطرحت الحوامل أحشاءها، لحظات قبل المغيب. لم ينجُ من الموت سوى قطة؟ ما أجمل القطة في صباح غزة، وما أبشع انعكاس صورة الخيانة؟ سأغتسل في مستنقعات غزة، لأطّهر روحي، دعوني أبتهل إلى سماء فلسطين الدامية. كلّ ما ترنوه عيني معمّد بالدماء. وُلِدْتُ على حين غفلة هناك، وصُلِبتُ إلى جانب المسيح، وطفت في الأقصى حين كنت صغيراً، شاهدت كيف يغفو الحنين، فمارست طقوس السحر لعلّ ذكرى قريتي تراودني ليلاً والناس نيام. وُلِدْتُ على حين غفلة في وطني، فسُلِبْتُ الهوية، وتاه جسدي بين جنبات المطارات، فكسرت المرآة، لكني تذكرت بأني ما زلت أمتلك مفتاح بيتي، قالوا لي بأنه أصبح دون أبواب، فقلت أفتح مصارع قلبي، وأدلف دون دعوة، دون تصريح سفر. أدلف إلى بيتي مصحوباً بجرحي، وأنا قادر على الاحتمال، فابتسمي غزة، ابتسمي الليلة، أغمضي عينيك، ودّعي ركب الشهداء، ما زال في القصة بقية. أنا العاشق وحبيبتي غزة.