لا يمكن تصوّر الهدف الكامن وراء تركيز أجهزة الأمن المصرية على سؤال الفلسطينيين الذين ألقي القبض عليهم بعد اجتيازهم لمعبر رفح المغلق بهدف التزود باحتياجاتهم الغذائية ، عما سمعوه أو يتخيّلوه حول مكان احتجاز الجندي الإسرائيلي الأسير لدى حركة حماس جلعاد شاليط ، أو سؤال الجرحى الذين حوّلوا الى مستشفياتها مؤخرا عما لديهم من معلومات حول سلاح هذه الحركة ، ما هي أنواعه ، وكيف يخزّن ، وأين تتواجد قيادات الحركة وقيادات الظل ..!
لكن قراءة مسلسل العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة ، ودور الرسمية المصرية منذ بدايته وحتى الساعة ، يعطينا الجواب المرّ على ذلك . فماذا تقول التفاصيل ؟
….
كلنا يعلم كيف اختصرت ” إسرائيل ” الهدف الذي تريد تحقيقه من وراء عدوانها على القطاع بوضع حدّ للصواريخ التي تُطلق عليها. ومع أن هذا الهدف لا يحتاج تحقيقه إلى وقت طويل ـ كما هو مفترض ـ في منطقة محدودة المساحة، وأمام مقاومة محدودة الإمكانات أيضاً، قياساً بقدرات جيشها وترسانتها الفتّاكة ، إلاّ أنها اكتشفت مع الأيام عدم قدرتها على تنفيذه، في ظلّ استمرار تساقط صواريخ المقاومة وتصاعد عمليات المواجهة كردّ “متواضع” على جحيم قذائفها التي استهدفت المدنيين والأطفال بشكل متعمّد ومقصود، فسارعت الى تغيير هدفها وأعلنت عن عزمها على منع مصادر التهريب التي تأتي عن طريقها المواد الأساسية لصنع الصواريخ “العبثية” – حسب وصف الرئيس عباس، المتفرّج على ما يجري مثله مثل “خادم الحرمين”وسائر عرب التسوية و “الإعتدال ” !
ثم أشارت إلى الدور الذي على إدارة الرئيس مبارك أن تقوم به في هذا السياق، ترجمةً لوجود مصر الرسمية معها في خندق تشديد الخناق على حماس وأهلنا في غزّة، حتى بالنسبة للقمة الخبز والدواء ، وسرعان ما أتبعت ذلك بإستعمال أسلحة أكثر فتكاً مما استعملته في بداية هجومها البربري .
ولكن هذا الهدف الآخر لم يتحقق أيضاً، لا على صعيد تدمير كل هذه الأنفاق، ولا منع مصادر التهريب طوال الأسابيع الثلاثة من بدء العدوان.
ولما كانت الفترة الزمنية المتصوّرة لإنهاء هذه المهمة لا تتعدّى الأيام الباقية من ولاية الرئيس الأميركي غير المأسوف على رحيله جورج بوش، فقد أصبح الوضع محرجا بالنسبة لها، نظراً لاستحالة تحقيق الهدفين السابقين، خصوصاً مع ارتفاع موجة الإستنكار الشعبي دولياً، وارتفاع حجم الضحايا المدنيين ، ثم استلامها إشارات أكثر إحراجا من الرئيس المنتخب . وأصبح لزاما عليها أن تجد مخارج تجيبها على جملة من الأسئلة المؤرقة التي تتعلق بكيفية الإنتهاء من هذه العملية ، وما هو الممكن عَوَض المستحيل؟ وماذا سيكون مردود ذلك في صناديق الإنتخابات القادمة، مع الأخذ بعين الإعتبار أن توقيتها للعدوان جاء مختاراً بدقّة ، وفي ضوء عدة عوامل مضافة الى عامل استغلال الأيام المتبقية من ولاية بوش ، ولم يعد سرا أنه لا يمكن تكراره بهذه الصورة على الدوام .
ضربة استباقية؟
صحيفة واشنطن بوست الأميركية ـ على سبيل المثال ـ إرتأت أن “اسرائيل” أرادت من توقيت هجمتها استباق قدوم الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما ، لأنها لا تستطيع التنبؤ بالكيفية التي سيتعامل بها مع مثل هذه الهجمة المتواصلة في تقتيل الأطفال بأعلى نسبة شهدتها حروب الكون منذ خلق البشرية حتى اليوم، خصوصاً مع تسريب أنباء أشارت إليها صحيفة الغارديان البريطانية، تنسف – إن صحّت – موقفه السابق من حركة حماس، حسبما أوردت مراسلتها في واشنطن سوزان غولدبيرغ التي قالت أن معسكر أوباما أصبح مستعداً للتحدّث مع حماس، وأن انتقال الإدارة
الجديدة الى هذه القناعة سوف يُمثّل تغييراً جذرياً في الموقف الأميركي الذي كانت تنتهجه إدارة بوش.
الجديدة الى هذه القناعة سوف يُمثّل تغييراً جذرياً في الموقف الأميركي الذي كانت تنتهجه إدارة بوش.
وفي رأي غولدبيرغ أنه بالرغم من عدم وجود تأكيدات على لسان أوباما نفسه حول هذا التغيير ، إلاّ أن القناعة الثابتة لدى مستشاريه تقول أن تجاهل حماس واستمرارمقاطعتها– مهما كان الرأي فيها – أمر لم يعد يجدي نفعاً، ولهذا فإنه لا بدّ من التقدم خطوة في هذا الإتجاه وتحقيق التواصل معها، ولو عن طريق نفس الأقنية الأمنية ، التي بدأت بها الولايات المتحدة مع منظمة التحرير أواخر الثمانينات في تونس . ولا ينفي هذا الكلام قيام أوباما بإجراء اول اتصال هاتفي دولي رسمي مع الرئيس عباس .
وتلتقي صحيفة “الإندبندنت” البريطانية مع فحوى هذا الكلام، حسب تقرير أعدّه مراسلها في الضفة الغربية بين لينفيلد، حمل عنوان “الضفة الغربية: كلنا حماس”، قال فيه أن السياسة التي ينتهجها الرئيس عباس منذ تولّيه السلطة لم تُحقّق أي نتيجة على صعيد الحل السلمي مع الإسرائيليين، ولا على صعيد تحسين الأوضاع المعيشية للمواطن الفلسطيني، ناهيك عن أن حالة الإحباط التي ولّدتها هذه السياسة قد أُضيفت إليها الآن حالة من السخط الشعبي العام نتيجة لما يجري على أرض غزة.
أما في الجانب الإسرائيلي، ورغم التهليل “للإنجازات” التي حقّقها العدوان الهمجي في قتل الأطفال والنساء ، فقد كان لافتاً للمتابعين نشر تقرير إسرائيلي في موقع للوبي الصهيوني في روسيا هذه المرة، يُدعى معهد الشرق الأوسط، وهو متخصص بالأبحاث المتعلقة في منطقة الشرق الأوسط كما هو واضح من إسمه، جاء فيه أن الأهداف التي وضعها المسؤولون الإسرائيليون لهذه العملية كانت منذ البداية غير واضحة بشكل محدّد ، وأنه على الرغم من كل ما قامت به القوات الإسرائيلية في غزة وكل الترسانة العسكرية التي تملكها، فقد استحال عليها تحقيق ما تريد بهذا الأسلوب، وتبيّن أن أقصى ما يمكن أن تحقّقه لا يتعدّى حدود القتل والحرق والتدمير ، دون أن يُغيّر ذلك من قناعات الناس والتزامهم، ودون أن يقضي على المقاومة أو ينال من بنيتها الأساسية، أو يعمل على تحقيق الأمن بالشكل المطلوب. أي بصريح العبارة: سوف تبقى حماس في مواقعها، كما بقي حزب الله في مواقعه بلبنان.
الإعتراف: لم يتحقق شيء!
مضمون هذا التقرير الذي صدر في الأسبوع الثاني للعدوان ، عادت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية واعترفت به في اليوم العشرين الذي وُصف بالأعنف من كل ما سبقه، وأسفر عن استشهاد القائد في حركة حماس سعيد صيام، عضو مكتبها السياسي. وجاء هذا الاعتراف من خلال الإعلان عن أن اسرائيل والولايات المتحدة تعملان الآن على بلورة صيغة قرار يُفضي إلى وقف إطلاق النار، في ضوء ردّ حماس المنتظر على المبادرة المصرية والمطالب المتعلقة بموضوع وقف التهريب، ثم من خلال ما أُعلن في نفس اليوم عن نيّة تسيفي ليفني التوجه إلى الولايات المتحدة لتوقيع اتفاق تُقّدم بموجبه الولايات المتحدة كل الضمانات لوقف عمليات التهريب الى القطاع، وهو ما حصل فعلاً في اليوم التالي بشكل أسرع من البرق؟ وهذا يعني دون أي جهد في قراءته أن الحملة العسكرية لم تحقق هدف ايقاف الصواريخ ولا توفير الأمن، ولا القضاء على مصادر التهريب ، ولا حتى على إنقاذ الجندي الأسير جلعاد شاليط ! وهذا إعتراف ضمني بفشلها الذي أقنعها أخيرا أن الحل الممكن يأتي عن طريق ضمان أميركي، كان يمكن أن يأخذه الكيان الصهيوني مسبقاً من إدارة بوش دون الحاجة لهذه الهجمة الإبادية !
غير أن صحيفة “يديعوت أحرونوت” كانت أكثر دقة في نقلها لبعض خلفيات وأسرار ما يجري عندما قالت في عدد 13 كانون الثاني الجاري أن السلطات المصرية تعمل على تعقيد الأمور في وجه حركة حماس، رداً على مواقف الحركة منها وتحريض العرب عليها، وعدم تجاوبها مع أطروحتها السلمية . وأن هدف مصر من وراء هذا التعقيد الذي يؤجل عملية التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار تحقيق رغبتها بإعادة القطاع الى السلطة الفلسطينية وتجديد ولاية الرئيس عباس (الذي تضامن معها ومع عرب الاعتدال حتى في تخلّفه عن حضور قمة الدوحة مع أنها لأجل غزة، مهما كان الرأي سلبياً في القمم التي لم يتأخّر عن حضورها في العادة )!
الشقيقة الكبرى أقسى
من العدو!
من العدو!
ولأجل تحقيق ما ترمي اليه السلطات المصرية ، عمدت – حسب يديعوت أحرونوت – الى رفض مطلب الحركة بضرورة وقف العدوان قبل إقرار صيغة اتفاق وقف إطلاق النار. وبكلام أكثر صراحة قالت الصحيفة الإسرائيلية : إن هذا التصلّب ليس مصدره “اسرائيل” وإن كان يُحقّق مصالحها، بل السلطات المصرية؟!
هل يُعقل أن تكون السلطات المصرية أكثر تصلباً من الكيان الصهيوني في موقفه من حماس، وأكثر حرصاً على مصالح “اسرائيل” من “اسرائيل” ذاتها؟!
بعض المعلومات تؤكد ذلك مع الأسف، وهي ليست من مصادر قوى الرفض أو الممانعة العربية وما شابه، بل من قبل شبكة “إن. بي. سي” الاميركية، وموقع “أميركا إن أرابيك”، وعلى لسان كبيرة مراسلي هذه الشبكة في البيت الأبيض أندريا ميتشيل.
تقول ميتشيل في معرض نقلها معلومات عن مشاركة قوة عسكرية أميركية في مراقبة الحدود المصرية مع غزّة أن هذه القوة تتضمن عناصر من سلاح المهندسين في الجيش الأميركي ، وهم موجودون الآن على الجانب المصري من الحدود مع القطاع، وهدفهم السهر على تنفيذ تعهّدات مصر لإسرائيل بمنع التهريب عبر الأنفاق الى القطاع!
ولم يقتصر كشفها هذا على مجرّد الكلام الذي قالته في برنامج “واجه الصحافة” الذي تبثّه “إن. بي. سي.” صباح كل أحد ويقدمه ديفيد غريغوري، بل أرفقته بشريط مصوّر لما تقوم به هذه القوة من عمليات مراقبة على الأرض، وبحث عن أنفاق غير مكتشفة بعد، لأجل التأكد من عدم إمكانية استمرار عمليات التهريب ثانية، نزولاً عند طلب “اسرائيل” بالطبع؟
المصيبة الأكبر من سابقتها؟
إلى هنا لم تنته حدود المهمة الخاصة التي يقوم بها سلاح المهندسين في الجيش الاميركي. وعلى الرغم من أن طبيعة هذه المهمة تمثل تدخلا وعارا بالنسبة لدولة عربية كبرى ومستقلّة، إلا أن المعلومات الأخرى التي لم تُفصح عنها ميتشيل، ولا انتبه إليها أحد حتى الآن تمثُل مصيبة أكبر.
هذه المعلومات وزّعها موقع “أميركان إن أرابيك” على مشتركيه ، مشيرا فيها ـ للدقة ـ أنه استقاها من أسبوعية أميركية موالية للوبي الصهيوني تُدعى “ويكلي ستاندرد”، وقد نُشرت في عدد سابق لها يعود تاريخه إلى يوم الثلاثاء 22 نيسان 2008، وهي تقول بالنص: إن فرقاً من سلاح المهندسين العسكريين الأميركي ستتوجّه إلى مصر للإشراف على بناء جدار مصري عازل على الحدود مع قطاع غزة، أي على غرار الجدار العازل بين” إسرائيل “والضفة الغربية المحتلة.
وجاء في التفاصيل التي كشفها الباحث ديفيد شنكر من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى – وهو أحد أجنحة منظمة، “إيباك” الصهيونية الأميركية – أن السلطات المصرية ستُسرع في إقامة هذا الجدار تحت ضغوط أميركية، وخشية حدوث تواصل محتمل بين حماس التي تُهيمن على غزة وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، فضلاً عن أن هذا الجدار سيجعل مصر أكثر أماناً… “لأن اسرائيل قد تعلمت منذ زمن طويل أن جداراً جيداً يخلق جيراناً جيدين، خصوصاً إذا كان هؤلاء الجيران هم أعداؤك”؟!
وفي مزيد من التوضيح لما قصده شنكر في أسبوعية “ويكلي ستاندرد” يقول أنه “مع تزايد التوتّرات خفّفت مصر من موقفها تجاه جدار اسرائيل في الضفة، وستسافر فرق سلاح المهندسين قريباً الى هناك، بعد موافقة القاهرة على بناء جدار مماثل يفصلها عن غزة، بتمويل أميركي يبلغ 23 مليون دولار”.
كان هذا الكلام قبل تسعة شهور من اليوم تقريباً، أما أفراد سلاح المهندسين فقد أصبحوا موجودين الآن على طول الحدود والمعابر بالتوقيت مع دكّ البيوت على رؤوس أهلها في غزة، وسقوط هذا الكمّ الهائل من الضحايا… والسؤال المرعب الآن أيضا : هل بدأت مصر بالفعل إقامة الجدار العربي “العنصري” الأول في التاريخ ؟
ما رأي القاهرة في هذه المعلومات، وما ردّ الوزير صاحب
اللسان الطويل … أحمد أبو الغيط ؟
اللسان الطويل … أحمد أبو الغيط ؟