النقد الموضوعي ضروري جدا
بروفيسور حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
قرأت مؤخرا الكتاب “دراسات مسيحية” للأستاذ ميخائيل جبران بولص، الصادر في آذار 2008 ونشرتُ عرضا ومراجعة له في مواقعَ إلكترونية كثيرة، ودّونت تعليقات بالعربية والعبربة والإنجليزية عليه لا سيما في الموقعين الجليليين الكفرساوي والنصراويwww.kfary.com ، www.panet.co.il إذ أن المؤلف والناقد من بلدة كفرياسيف في الجليل الغربي و”الحزازات”، كما لا يخفى على أحد، ضاربة أطنابها هناك. لا يُخطىء المرء إذا قال أن المجتمع العربي ككل ما زال غير مهيأ لا نفسيا ولا عقليا لتقبل النقد العلمي لا سيما من أبناء جلدته، فهو معتاد على طوفان من المجاملات والتوجهن والتملق وجها لوجه وسيلان متدفق للنميمة والاغتياب في القفا. وقد قيل: لن يفلح قوم لا تتسع صدورهم للخلاف فيالرأي. أود القول بإخلاص وباختصار ما يلي رغم أني لا أعقّب عادة على ما يُكتب في ركن التعليقات / التعقيبات، أقول كلمتي بعد تفكير كاف ومسؤول وأمشي، وأرى أن تغيير تفكير إنسان منغلق ومبرمج أصلا إزاء أي شيء يُطرح، دونه خرط القتاد.
نعم هناك عقول متحجّرة ترفض سماع الرأي الآخر وإن سمعته فترفضه تلقائيا دون فهمه كما يجب. لدى مثل هذه الشريحة الغوغائية العريضة، يكمن بيت القصيد في هوية القائل لا في الفكر والرأي الذي يطرحه. أفراد هذه الشريحة تحت آباطهم مواقف معروفة ومحددة سلفا إزاء فلان وعلان وفق ما تربطهم من علاقات ومصالح شخصية بالآخرين. من مزايا النقد والذي يعني لغةً فرز الغث عن السمين، الإنصاف والأمانة العلمية في التقييم دون أية شائبة جراء عداوة أو حسد أو غيرة أو اختلاف في الرأي. كل هذا وغيره ينبغي أن يحصل بلغة واضحة وسليمة دون أي قدح أو مدح رخيص.
أولا: صدور مثل هذا الكتاب والتعريف به ونقده الموضوعي ظاهرة طبيعية وصحية في كل بقعة من بقاع العالم الراقي ولا بد لمن لم يعتد عليها أن يجتهد في ترويض نفسه نحو ذلك إذا أراد الإسهام في تطور مجتمعه. في الكتاب كما هي الحال في كل مؤلَّف مواطنُ قوة ومواطن وهْن كما ورد في مراجعتي المذكورة ونقطة الفصل تكمن في نسبة كل منهما. تُخصِّص هيئة إدارة جميع المجلات العلمية الجامعية في العالم ركنا لمراجعة المطبوعات الحديثة في مجالات تخصُّص المجلة. النقد الموضوعي حاجة ماسّة في كل مجالات العلم والمعرفة وبدونه لا يحدث التقدم الحقيقي المطلوب والمتجدد.
ثانيا: جلّ التعليقات العربية في موقع كفرياسيف وعدد كبير منها في موقع بانيت بانوراما بمستوىً ونمط واحد مكشوف فهي بمعظمها الساحق بقلم شخص واحد مجهول للكثيرين ومتخفٍ وراء أسماء شتى لا وجود لها على أرض الواقع (منها: محمد (أحمد) علي حسين، إبراهيم حمود، مريم سعيد، د.مروان غالب، أيمن وحيد، أمين، إلياس، د. مراد، علاء أبو بكر، بطرس، جريس، رائد، موسى، مسيحي مؤمن، جورج رحمة، د. إلياس متى، جريس خوري، يوحنا، مهنا، هيلانة، حنة، خزمة، أمجد، نادر، نادين، هاني، فؤاد، ياسر، بشار، جوزيف، باسل، ربيع الخ.(إني أعلم هوية الإنسان الحقيقي المتخفي من وراء هذه التعقيبات الهابطة معنى ومبنى، إنه من قريتي الحبيبة كفرياسيف، خريج مدرسة يني الثانوية قبل بضعة عقود، ومع هذا فهو منخرط في سلك التدريس الابتدائي منذ مدة طويلة، والشيء بالشيء يُذكر، على أي مدرّس في المرحلة الابتدائية حتى الصف التاسع هنا في بلاد الشمال، فنلندا، أن يكون حاصلا على شهادة الماجستير على الأقلّ وعلى شهادة في مساق التربية والتعليم فالاستثمار الأفضل والأنفع هو في الإنسان. من المعروف عالميا أن فنلندا ما زالت تحتل منذ مستهل هذا القرن وحتى يوم الناس هذا مكانة مرموقة جدا في المجال التعليمي التربوي. تظهر هذه الحقيقة جلية في أبحاث
PISA = Programme for International Students Assessment
ومنابر عالميةأخرى عديدة. مثلا آحتلت فنلندا في موضوع القراءة، لغة الأم، المرتبة الأولى في العامين 2000، 2003
وفي الرياضيات احتلت المنزلة الثانية عام 2003؛ وفي العلوم المنزلة الأولى عام 2006.الخ.
من المفروغ منه أن المدرّس هو حجر الزاوية في العملية التربوية التراكمية، إنه سرّ التميّز والتفوق. نظام التعليم الفنلندي مرن ومجاني وواحد للجميع دون أي تمييز كان، هذا يعني مثلا حصول الطالب على وجبة غَداء ساخنة يوميا، رعاية صحية كاملة بيولوجيا ونفسيا، حتى طب الأسنان، مواصلات والمواد التدريسية من كتب وقرطاسية الخ. لا أحد يدرّس إلا مادة تخصصه! أضف إلى ذلك أن مهنة التعليم، بل رسالة التربية، جد محترمة في بلاد الشمال والمرتّب جيّد، اختيار المعلم يتم وفق أسس دقيقة وصارمة وشفافة ولا مكان للمحسوبيات. ويتّسم النظام التعليمي بالجدية ويركز على الربط الشديد بين التنظير والتطبيق. ويتمتع المعلم بحرية واستقلالية يُحسد عليها بالنسبة للأوضاع في دول كثيرة في العالم. والتعاون بين المعلم والطالب وطيد بغية بلورة مادة الدراسة وهناك دائما إمكانية لمساعدة الطالب الضعيف في مادة معينة ليلحق بباقي أقرانه. وبكلمات معدودة يمكن القول إن النظام التعليمي الفنلندي يتميز بـ: المصداقية، الدقة، العمق، الصراحة، المهنية، الشفافية؛ الاستقلالية والتفكير الناقد والحتننة، أجهزة الحاسوب متوفرة للجميع والجميع يُحسن استخدامها وإلا فالإنسان أميّ. قد يذكر بعض القراء ما قالته رئيسة الجمهورية الفنلندية، السيدة تاريا هالونن، في نهاية لقاء أجراه معها الإعلامي أحمد منصور من قناة الجزيرة الفضائية قبل مدة مستفسرا حول
سرّ تقدم البلاد: التربية ثم التربية ثم التربية. الدراسة لا تعني التذكر ولا بد من تدريس التفكير الناقد في المدارس العربية فنقصانه ماثل في كل حدب وصوب. (أنظر مثلا: د. حسن عبد الباري، عصر التفكير، مهاراته واستراتيجيات تدريسه. الإسكندرية 2001).
ثالثا: التطرق للموضوع لا للشخص هو من الأمور المفروغ منها في المجتمعات الراقية ومجرد ذكر ذلك يكون علامة تأخر فاضح. وقد قيل: العقول العظيمة تعالج الأفكار والعقول المتوسطة تبحث في الأحداث والعقول الصغيرة الواهية تتطرق إلى الناس! وكان الإمام أحمد الشافعي يقول لتلاميذه “إذا ذكرتُ لكم ما لم تقبله عقولُكم فلا تقبلوه فإن العقل مضطر إلى قبول الحقّ”. قد يكون الشاعر صادقا في نظمه:
إصبر على حسد الحسود فإن صبرك قاتله كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
قلتُ في مراجعتي مثلا إن أي دراسة علمية لا بد لها من ذكر المصادر المعتمدة الخ. وإذ بالمتستر خلف تلك الأسماء الجمة يقول مثلا: الكتاب رائع، علمي، أكاديمي، المؤلف بولس ملم بمادة اللاهوت، هل أنت متقاعد كما يبدو من صورتك، متفرغ للنقد، ألا عمل آخر لك، ألا تمييز في فنلندا ضد الأجانب، لماذا لا تكتب عن اللاهوت المسيحي، أكتب عن الأسماك الفنلندية وعن الحجارة الهلسنكية وعن القتل هناك وووو!
رابعا: ألا تظنن عزيزي القارىء الحرّ أن لكل إنسان الحق فيما يكتب وعمّا يكتب ومتى يكتب والنقطة الأهم جودة الكتابة وعمقها والفيصل هو العقل، مبضع التحليل والتفكيك، ولا يجب أن يكون أي مكان للأمور الشخصية والحزازات والشعور بمركب النقص والغيرة والنميمة والخبث والخيانة والحسد والانتقام. فيا أيها “المسيحي المؤمن” أخل بنفسك وتب وصالح البعيد قبل القريب قبل أن تتجاسر وتخاطر وتدخل بيت الله! “… فكل شجرة لا تعطي ثمرا جيدا تقطع وتُرمى في النار”، “ما من خفيّ إلا سيظهر، وما من مكتوم إلا سيعلن”، “لا نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وأهل بيته” كما كتب أحد المعلقين في موقع كفرياسيف، “فماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه”. لا بد من وقفة شجاعة وصادقة مع النفس واليوم قبل الغد!
خامسا: أيّ كتاب يطمح أن يُعتبر دراسةً في عصرنا الراهن وهو بدون برنامج عمل مدروس وواضح المعالم وبدون ببليوغرافيا كافية وحديثة بلغات عدة وبدون حواش وملحقات وفهرست شامل ومسارد تفسيرية للمصطلحات المذكورة إلخ إلخ. لا مكان له البتة في العالم الأكاديمي المعاصر. هذا من أبجديات البحث الرصين اليوم لا التجميع واللصق والترقيع بسبك مهلهل كما يفعل الكثيرون، إذ غدا النشر مشاعا للجميع وامتهان سلامة اللغة العربية وحرمتها في تفاقم مؤرِّق! وجود نسخة من هذا الكتاب أو ذاك في جامعة ما، مثلا في حيفا لا يعني أبدا أن الكتاب على مستوى رفيع بالضرورة. هناك قانون في الدول الحديثة يحتّم على دور النشر إهداء نسخ من مطبوعاتها لمكتبات رسمية معتمدة. (أنظر: أحمد شلبي، كيف تكتب بحثا أو رسالة: دراسة منهجية لكتابة البحوث وإعداد رسائل الماةستير والدكتوراة. مكتبة النهضة المصرية 1992).
سادسا: القول الجارف: “من أهم المراجع اللاهوتية المسيحية اليوم” يصدر فقط عن شخص غير مسؤول ذي رأي واه لا يعوّل عليه قطعيا وهذا ليس لصالح الكتاب أو مؤلفه المحترم (الذي إن لم أكن مخطئا لا اختصاص له في اللاهوت أو في غيره رسميا، أكاديميا)، وهذا بطبيعة الحال، لا يعني بالضرورة عدم القدرة على كتابة علمية. لا نضيف جديدا إذا ما قلنا إن المثقف شيء والمتعلم أمر آخر. من مزايا النقد الإنصاف والأمانة في التقييم بلا أية شائبة مهما كانت.
سابعا: أهناك في جامعة حيفا مساق لدراسة اللاهوت المسيحي في إطار مادة التاريخ؟ وهل الأساتذة هناك متمكنون من لغة العرب؟ أفيدوا القارىء وما هي المصادر العربية المعتمدة هناك؟ والأمر ذاته ينسحب بالنسبة إلى الادعاء أن بعض الكتاب قد اعتُمد بجامعة أثينا والكتاب برمته اعتمد في كافة المؤسسات اللاهوتية المسيحية في الديار المقدسة! إلى أين وصل هذا الخيال الشرقي الجامح المنفلت؟ إشاعة العلم القويم فيه نفع عميم لأبناء جلدتك أيها المتفلت اعتباطا، لا تمرمر نفسك ولا تدردرها ولا تفرفرها (أي إلصاق السابقة لكل من ماجستير، دكتوراة وبروفيسورا بالعبرية الشائعة على ألسنة جل عرب الثمانية وأربعين، מר، ד’’ר، פרו’’פ)، لكل مجال اختصاصيوه ولا مكان للتطفل والتنطح، وقيل: رحم الله امرءً عرف قدر نفسه! ونجّانا الله من شرّ ذِكر أنا وأنا. الأقزام لا تناطح الأعلام!
ثامنا: يبدو أن البعض لا يعرف ما الفرق بين العرض والمراجعة. هذا ركن أساسي وهام في عالم المطبوعات الجامعي مثلا كما نوهنا. من نافلة القول أن شحة النقد العلمي الموضوعي في المجتمعات العربية هي من أسباب عدم التقدم الكافي والسريع في مجالات معرفية وثقافية كثيرة. الصديق الصدوق لا يُخفي ما يراه سلبيا عن بصيرة صديقه، فالصديق الذي لا يقوم بعمل الخير لصديقه هو كالعدو الذي لا يؤذيك.
تاسعا: ما جاء على لسان اسم مستعار ج. رحمة باهت ومفكك، لا أرضية له. لم يدحض أي مأخذ في النقد. وقل الأمر نفسه في مقال المنتحل اسم د. إلياس متى المقدسي مرة والفلسطيني أخرى، المستوى أكثر من منخفض لهذا المتدكتر المتلهت (أي في اللاهوت) ودون أبسط المعايير الكتابية والأخلاقية! أمامنا انعكاس لخيال شخص لا يتمتع بالتوازن التفكيري والأخلاقي على حد سواء. وحسنا صنع موقع كفرياسيف المحترم عند قراره إزالة ذلك النص التجر
يحي الذي لا يرقى لأبسط أصول الكتابة المسؤولة الجادة. كان ذلك بعد نشره بوقت قصير لما فيه من صفاقة وتلفيق قد يؤديان إلى تقديم الجاني للمحاكمة.
عاشرا: “للأسف الشديد لا أجد في عرض ا. د.(أي كاتب هذه المقالة) أي كلمة….” إذن لماذا هذا الهيجان وأين الأبوة في مثل هذا التعليق المفتقر لأبسط الأسس الأخلاقية والعلمية. ما الصلة بين الغربة والدين القويم يا حليم ويا عليم وأين الأخطاء الإملائية، لماذا لم تشر لأي مثل منها على الإطلاق، إنى مستعد دائما للتعلم؟ ولا أحد مخوّل لا أخلاقيا ولا قضائيا بتوزيع درجات الإيمان وماهيته وهذا أمر مفروغ منه في العالم الراقي حيث لا أحد يسأل عن ديانة الآخر، وهل شخص غارق حتى أذنيه “بالوحول” يريد ويقدر أن يتعلم ويستفيد من الآخرين من كل جديد ومفيد؟ ثم أعطونا مصدرا واحدا بالعربية بمستوى أطروحة دكتوراة عن اسم عمانوئيل “السيد المسيح ابن مريم البتول”! المنفتح جاهز دوما للتعلم من الآخرين القادرين، عطاء وأخذ باحترام دون أي تكبر أو تبجح أرعن ويجب ألا يكون أي دخل لطبيعة العلاقة الشخصية بين المنتج والمستهلك. الحقيقة شمس حادّة تجرح إذ يحدّق الإنسان فيها.
وآخرا وليس أخيرا: يمكن لأمتنا العربية أن تخطو بعض الخطوات نحو التطور والتقدم المنشودين بعزة وسؤدد إذ احتفظت بالقلب الشرقي الصافي (أخذ يتعكر فالمادية والأنانية والغيرة ومركب النقص تسد الكثير من الشرايين) وأخذت العقل والعقلانية نبراسا لها. نحن متعودون على سماع كلمات النفاق والشقاق والتملق والتحذلق أما كلمة الحق والصدق والصراحة والسماحة فلا يقبلها إلا المتواضع الحقيقي والأستاذ المحترم السيد بولص لا إخاله إلا موافقا على هذا وممتنا لما ذكرته في مراجعتي التي لا تجريح فيها أبدا. على سبيل المثال ذكرت في مراجعتي زهاء الثمانين موضعا فيها أخطاء لغوية وليس فقط أغلاط طباعية كما ادعى ذلك المتستر المتخفي منتحل شتى الأسماء والذي يشعر براحة أكبر عند التحدث بالعبرية مع أبناء جلدته بدلا من العربية!
من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد!
أرجو من الموقع الكفرساوي المحترم ومواقع أخرى أن تُغربل بالضابوط بل أن تُنخل وتصفي ما يصلها من مواد ومن تعليقات لا ترقى مضمونا وشكلا للمستوى العلمي المطلوب اليوم، لا سيما تلك التي فيها تجريحات وتطاول على كتّاب معروفين. حرية نشر كل ما هب ودب فيه وباء خطير على الشباب الغض!
“إن كنت أخطأت في الكلام، فقل لي أين الخطأ؟ وإن كنت أصبت، فلماذا تضربني”؟
والسلام على من اتّبع الهدى، أكبر غلطة أن تكون هناك غلطة ولا تصلحها!! (كونفوشيوس). أنكى من ذلك أن يخطىء الإنسان خطأ فاحشا ولا يدري أنه قد أخطأ بل إنه يرى نفسه بريئا وعلى حق!
أرجو من كل فؤادي أن يهدي الربّ الرؤوف مثل ذلك الإنسان الضال ليتوب ويعود لسبيل الخير والحق والمودة (إني متشائل وفيها الشين أكبر من الفاء)!
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
قال رجل لحكيم: ما خير مايؤتى المرءُ؟ قال: غريزة عقل
قال: فإن لم يكن؟ قال: فتعلُّم علم
قال: فإن حُرِمه؟ قال: صدْق اللسان
قال: فإن حُرِمه؟ قال: سكوت طويل
قال:فإن حُرِمه؟ قال: ميتة عاجلة