مرح البقاعي
شدّد الرئيس السوري بشار الأسد مؤخرا، وفي تصريح رسمي، أن بلاده قد تدخل في مفاوضات سلام “مباشرة” مع اسرائيل على أساس قرارت مجلس الأمن الدولي. وأضاف مستعينا بعلم البيان السياسي: “شبّهتُ هذه العملية بعملية بناء، نبني الأساسات المتينة ومن ثم نبني البناء وليس العكس. ما نقوم به في المفاوضات غير المباشرة هو وضع أساس لهذا البناء الكبير؛ فإذا كان هذا الأساس ناجحا ستكون المفاوضات المباشرة ناجحة بالضرورة، ومن ثم، وبشكل طبيعي، يتحقق السلام”.
هذا وكان الأسد، وفي خطاب القسم الجمهوري ، قبيل توليه فترة رئاسية ثانية تمتد لسبع سنوات، كان قد أكّد أن أية مفاوضات مع إسرائيل يجب أن تسبقها ضمانات بالإنسحاب من الجولان على غرار وديعة رابين!
أما وديعة رابين فهي تعهّد شفاهي من إسحاق رابين رئيس الحكومة الإسرائيلية في العام 1992، لوزير الخارجية الأميركي آنذاك، وارن كريستوفر، لإنهاء النزاع الإسرائيلي السوري وتطبيع العلاقات بين البلدين مقابل انسحاب إسرائيلي من الجولان على مدى خمس سنوات وضمان حاجيات إسرائيل من مياه بحيرة طبريا؛ وهي المقترحات التي أجاب عليها الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد، بطروحات، أرى أن أطلقَ عليها ـ بالتوازي ـ اسم “وديعة الأسد”، وقد نصّت على رغبة سوريا بإقامة علاقات “عادية” مع إسرائيل عوضا عن التطبيع الشامل وضمان انسحاب إسرائيل خلال “أشهر معدودة” من هضبة الجولان وضمان حاجات سوريا و إسرائيل “معا” من مياه طبريا والجولان وليس فقط حاجات إسرائيل.
رحل الرجلان، رابين مقتولا برصاصات اليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي يرفض التخلي عن أراضٍ يعتبرها جزءا لا يتجزء من أرض “ميعاده”، ورحل حافظ الأسد بعد أن أعلن عن موقف انتظرته سوريا عقودا عاشتها في حالة من “الطوارئ”، نتيجة لحالة اللاحرب واللاسلم، الحالة التي أدت إلى عسكرة الحياة المدنية السورية بامتياز!. موقف وطني لا يختلف عليه معارض ولا موال لحكم الأسد الأب، ومن بعده الأسد الابن.
إذاً، نقاط اللقاء متوفرة في الوديعتين ـ تركة الرجلين؛ وتشكل تلك النقاط، مجتمعة، أرضية واضحة ومنطلقا جديّا لمفاوضات مباشرة وصريحة بين دمشق وتل أبيب في السعي إلى تحقيق “سلام أنداد” وفرض التوازن المطلوب بين الوديعتين، وضمان مصالح الشعبين. وقد دُعِّمَت تلك النقاط الرئيسة بجولات من المفاوضات غير المباشرة لعبت تركيا منها دور الوسيط “النزيه” ـ كما يحب أن يدعوها الرئيس الأسد في وصف دورها الحياديّ في هذه المفاوضات. والنوايا قائمة لدى الطرفين الإسرائيلي من جهة، والسوري من أخرى، في الجلوس المباشر لطاولة المفاوضات وإنهاء حالة “اللاحرب واللاسلم” التي كان المجتمع السوري أول ضحاياها، وسدّد مستحقاتها غاليا من دماء أبنائه وحرياتهم العامة وحقوقهم المدنية وسبل عيشهم. والمجتمع العربي قبل المجتمع الدولي في جاهزية كاملة لإنهاء حالة النزاع مع اسرائيل وقبول الدولة العبرية كدولة جارة،لا عدوة، في خارطة الشرق الأوسط.
فصل المقال يكمن في ضرورة “شرعنة” هذه المفاوضات لكي تودي ـ بعكس ما أودت به اتفاقية كامب ديفيد بين مصر واسرائيل الموقعة في العام 1978ـ إلى رضى شعبي سوري غير منقوص عنها، وعن كل ما يمكن أن تؤول إليه من اتفاقات تتحول، تدريجيا، إلى عملية تطبيع بين الشعبين الاسرائيلي والسوري تتناول أوجه الاقتصاد والسياسة والمجتمع المدني كافة. الوصول إلى هذا الرضى لا يتم إلا عبر استفتاء شعبي شامل يستشرف رأي الشعب السوري في السلام المرتقب. فبغض النظر عن المزاج العربي الذي كان غير مهيء إبان توقيع اتفاقية السلام بين مصر واسرائيل في العام 1978 لهكذا خطوة، والذي غدا اليوم مطالبا جادا بعقد السلام مع اسرائيل، ويعرض له خططا ومبادرات، بغض النظرعن هذا المناخ، فإن اتفاقية كامب ديفيد، التي أقرها برلمان “صوري”، لم تأخذ يوما حالة من القبول الشعبي في الشارع المصري، وانحصرت نتائجها على استرجاع سيناء وإيقاف حالة الحرب بين البلدين دون أن يتوصل المواطن المصري، حتى هذا اليوم، إلى قبول مشهد العلم الاسرائيلي يرفرف على شرفة سفارة اسرائيل في الأحياء القاهرية. وإذا كانت السينما المصرية هي الشاهد الحقيقي على النبض الاجتماعي والسياسي للشارع المصري فإن فيلم “السفارة في العمارة” لمؤلفه يوسف المعاطي، والذي يأتي إثر ما ينيف على الربع قرن من تاريخ تبادل السفراء بين مصر وإسرائيل، يأتي ليقول أن المصريين يجمعون على رفض التطبيع في ظل الممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، والذي ليس آخرها سبت غزة الأسود في 27 ديسمبر 2008!
تفيد الألواح البابلية التي نقشت عليها أسطورة مدينة أوروك وملكها جلجامش، أن الأخير في رحلته عبر غابة الأرز باحثا عن الخلود من خلال القضاء على الوحش المرعب هناك، وحين عودته منتصرا ودخول أوروك، شاهد السور الذي بناه شعبه حجرا حجرا لحماية المدينة، وعندها فقط أيقن أن جوهر الخلود يكمن في هذا السور المتعالي رامزا لوحدة شعبه وإرادته وتصميمه على الحياة.
سوريا الوطنية اليوم بمسيس الحاجة إلى ما يقارب هذه الوحدة وتلك الإرادة وذاك التصميم البليغ على بناء مستقبل يسوده السلام والمشاركة والوئام الوطني. سوريا بكل أطياف أبنائها وانتماءاتهم السياسة والعقائدية والدينية، سوريا المعارضة الوطنية والموالاة “اللانفعية” أيضا، على موعد مع شرعنة المستقبل باحتمالاته واشتقاقاته كافة، على موعد مع رفع سور أوروك الجديد، سور المصالحة الوطنية، السور المانع والجامع لكل مبادرات السلام أو الحرب في آن… فهل من مجيب؟!