بقلم: برهان الخطيب
مذابح غزة عار على العالم.
أولا على إسرائيل لأنها تعالج مشكلة في القرن الواحد والعشرين بأساليب القرون الماضية وتدعي هي دولة متحضرة، ولو ادعت بأن لا حل للمشكلة سوى بالقوة أقول أعيدوا للفلسطينيين والعرب ما انتزعتموه ظلما منهم تجدون أنفسكم في قلب العالم بدل الغضب والكراهية المتصاعدة نحوكم في كل مكان، التطرف من جانبكم نتيجة فقدان ثقة بأنفسكم وبالآخر يؤجج التطرف على الطرف الآخر. في بداية الخمسينات ما كانت هذه الهوة بينكم وبين العرب، كانت الألفة حقيقية بينكم وبينهم، في الحلة مدينتي كان أحد أقاربي وشك الزواج بإمرأة منكم في الخمسينات، ثم بدأ تهجير اليهود من العراق قسرا، استجابوا له مرغمين، بل وتمرد البعض عليه، لطيب العيش وسط المسلمين والمسيحيين في محلة الجباويين حيث كنيسهم قائم حتى اليوم هناك، قرب سوق الدجاج، وما زلت أذكر اليهودي الفقير بائع القناني الفارغة جالسا عصر كل يوم في ضيافة صديقه المسلم حمزة بائع البيض، قبالة باب بيتنا تماما، يوما رمى أحد الصبية الأشقياء كلمة نابية نحوه فإذا بأهل السوق هبوا كلهم للدفاع عن بائع القناني، واقرأوا (ألف ليلة وليلة) وتبينوا كيف عاش اليهود بوئام بين المسلمين. لكن، و منذ شنكم الحرب على مصر إثر تأميم قناة السويس وأخرى بعد عشرة أعوام تقريبا وسلخكم أرضا عربية زرعتم فتنة كبيرة لا تنتهي إلاّ بإعادة الحق المسلوب وإظهار حسن نواياكم باحترام المقابل والتسليم بحقه في اختيار نمط عيشه كما لكم منه ما تريدون.
دحر حماس كما تحلمون بالطريقة الشنيعة التي تمارس اليوم غير ممكنة، حماس في غزة متجذرة بعيدا في الأرض، حالها حال حزب الله في لبنان، والصدريين في العراق، والأخوان المسلمين في مصر، وغيرها من الحركات الإسلامية المعارضة لهوان شأن الأوطان في هذا الزمان قبل الأديان التي لها حارس وآذان قائم دائم، حركات هي لو تبصرتم جيدا نشأت وتقوت من إهمال مستلزمات المواطن بدءا من القوت إلى الأرض إلى الكرامة.
وعار مذابح غزة على العرب الرسميين غير المتعاطفين مع أخوتهم لأنهم لا يفهمون سلامة الجزء من سلامة الكل، التفريط بغزة تفريط بما تبقى لديهم من الملموس إلى المحسوس، هكذا يكون تفعيل تعاطفهم وتكاملهم الإقتصادي والإداري والسياسي بينهم اليوم وفي المستقبل وبعيدا إلى الجيران حتى العمق الأوراسي كما تفعل ليبيا والإمارات وسوريا مثلا بل وأبعد إلى العمق الصيني بعضا من رد على حال ما عاد يطاق، رد كان يجب أن يكون قبل نشوب أي حرب في المنطقة وكفعل إرادي قبل أن يكون رد فعل مرتهنا بما يقع اليوم وغدا، ضمانة لمستقبل لن يكون في يد العرب طرف منه لو استمرت الإستهانة بالمشاكل المتزايدة في المنطقة والتقوقع وراء الحدود الخاصة بهذا وذاك.
شعوب منطقتنا، في الجزائر ومصر والعراق وغيرها، غيّرت نصف القرن الماضي، انكفأ التأريخ هنا وهناك نعم، في غفلة عن مخاطر ما بعد التغيير، لكن الوقت تغير الآن، أصبحت هذه الشعوب تقرأ الممحي يقال بالعراقي، تعرف سلامة مصالحها في وحدتها، ودوام وتحسين وجودها في فعاليتها وزيادة نشاطها. لقد طرد غضبها المكبوت والعارم أنظمة صاغها الأجنبي لها، اليوم مؤكدا تدعم به أخرى، وطنية، وأيضا الحركات الوطنية أيا كانت طبيعتها، لتحسين الأداء العام نحو استكمال شروط الاستقلال والمواطنة الحقة.
عار ما يحدث في غزة على غير العرب أيضا، ممن تغنى بالتآخي الإنساني وراء فرنسا العدل والحرية والمساواة، مع أندريه مالرو وأكزوبري وروسو وغيرهم من مفكريهم الكبار، ثم ألقوه وراء ظهورهم عند تجربة بتأثير دعاية سمجة و (من أجل حفنة من الدولارات) وأحلام فالتة لسيطرة باهتة على عالم ينوء بما يسوء من يوم إلى يوم، في غفوة ضمير، تحت ظلال بل ضلال عقلانية واعتدال.
عار أيضا علينا نحن المثقفين، لا نستطيع تقديم أنفسنا متوحدين واضحي رؤية وطنيين، بديلا عن شبه فوضى سائدة.
غزة تنزف نعم، بغزارة، لكنها لن تموت.
مثل نزف العراق، مثل نزف لبنان، ذلك يوحد المصابين.
والمراثي لا تنسوا.. تزيد النفس قوة وعزما على تخطي المحنة.