عبد العزيز كحيل
متى نصر الله؟ لماذا تأخّر النصر عن غزّة رغم الصمود الأسطوري لسكانها ومجاهديها ورغم أعداد الشهداء والمصابين؟ أين الدعاء الّذي يلهج به مئات الملايين من المسلمين متضرّعين إلى الله يستنزلون النصر؟ أين الاستجابة لصرخات المظلومين واستغاثات الأطفال والثكالى؟ ألم يقل الله تعالى “وقال ربّكم ادعوني أستحب لكم”؟ ألم يقل جلّ شأنه “وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان”؟
هذه أسئلة تراود المؤمنين الّذين يرون آلة الدمار الصهيونية تزرع الموت في غزّة في ظلّ صمت الأنظمة العربية وتواطئ أكثرها مع العدوان على مسلمين عزل مستضعفين، ولم يبق لهم من أمل سوى في ربّهم، وهي أسئلة مشروعة طرحها حتّى الأنبياء “… وزلزلوا حتّى يقول الرسول والّذين آمنوا معه متى نصر الله”، ولكنّ الإجابة عليها تحتاج إلى فهم فقه الانتصار في ضوء القرآن والسنّة وسنن الله في المجتمعات والأحداث، ويمكن القول إن الإجابة تقتضي طرح سؤال جوهري هو: ما معنى النصر؟، وهنا تأتي قضيّة النسبية الّتي تحكم حياة البشر وتتحكّم في الوقائع كقانون رباني أزلي، فأصحاب الأخدود مثلاً صبروا على امتحان الطغاة صبراً بطوليّاً وألقوا في النار تباعاً، والغلام _بطل القصّة كما ورد في صحيحي البخاري ومسلم_ قتله الملك الكافر، حدث كلّ هذا فلم تتحوّل النار إلى برد وسلام ولم ينج الغلام من القتل كما وقع لإبراهيم عليه السلام. لماذا هذه النهاية وهذه التضحيّات؟
إن للمؤمن ثقة لا حدّ لها في ربّ العالمين ويعتقد جازماً أن لله حكمة في كل ما يفعل، حكمة يعلمها بعض الناس وتغيب عن آخرين وربّما لا تدرك آنيا بل تظهر ملامحها بعد حين، قال تعالى: “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون”
فالخبر ليس بالضرورة ما نتمنّاه الآن في شكل معيّن بل قد يأتي في شكل آخر أفضل للمسلمين، فنحن محكومون بالنسبية أمّا الله تعالى فهو الفعال لما يريد المطلع على حقائق الأمور، ولذلك يقول الرسول _صلى الله عليه وسلم_: “عجباً لأمر المؤمن أن أمره كلّه خير، وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن، إن أصابته نعماء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له” (رواه مسلم)، فقد يكون الأمر في ظاهره شرّاً لكنّه يبطن الخير الكثير بفضل الله تعالى، ومن أوضح الأمثلة على ذلك صلح الحديبية الّذي يعتبر في ظاهره هضماً للمسلمين بينما تفتق مع الأيام أنواع من الإيجابيات فكان نصراً “إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ويتمّ نعمته عليك ويهديّك صراطاً مستقيما وينصرك الله نصراً عزيزا”، لذلك ذكر الله أنّه يعلم (أي الحقائق الباطنة والمآلات وعنده العلم المطلق)، بينما نحن البشر لا نعلم (أي إلاّ نسبيّاً بما يتوافق مع الظاهر والآتي).
ومن أهم ما ينبغي التوقّف عنده هو تحرير مفهوم النصر بمعناه الشامل وفق الميزان الرباني لندرك أن النصر ليس بالضرورة الغلبة على الأعداء في كلّ معركة فهذا لم يحدث حتّى للجيش الذي قاده الرسول _صلى الله عليه وسلّم_ بنفسه، فقد عرف الانكسار والتراجع كما في أُحُد وفي بداية حُنَين، ذلك أن الحرب سجال لأنّها خاضعة لظروف موضوعيّة ونفسيّة تشكّل سنة لا تتبدّل وقانوناً يستوي أمامه جميع الناس لكن العاقبة للمتّقين، فهل النصر هو السلامة من الأذى والآلام؟ قال تعالى: “مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا…” وقال: “إن يمسسكم قرح فقد مسّ القومَ قرحٌ مثله” وقال: “وليتّخذ منكم شهداء”
فالمعاناة بكل أنواعها لازمة بين يدي نصر الله، قال الرسول _صلّى الله عليه وسلّم_: “أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل” (رواه الترمذي)، فالدماء والدموع والخراب والتشريد ثمنٌ ضروري لنيل النصر،و بالإضافة إلى هذا ينبغي التنبيه على أن المؤمن قد لا يرى بنفسه ثمرات جهاده بل تظهر بعد موته فالعبرة بالعمل والتضحية والثبات وإذا لم يقطف الثمرة هذا الجيل سيقطفها جيل مقبل كما تخبر بذلك أحداث التاريخ البشريّ لكنّنا نستعجل. ولنلاحظ التعقيب الرباني على قصّة أصحاب الأخدود “إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير”، فقد سمّى تضحيتهم فوزاً كبيراً (وهو تعبير لم يرد في كتاب الله إلاّ في هذا الموضع).
ومن أعظم معاني النصر الالتزام بالسير على منهج الله رغم الظلم والألم والموت والجراح والمؤامرات والتحديات والضغ
وط، ذلك أن الخوف الحقيقي ليس من أن يهزمنا الأعداء ونحن ثابتون على الحق ولكن الخوف كل الخوف من ألاّ نلتزم بدين الله فنستسلم أو نهزم بغير حرب كما حدث _مع كلّ أسف_ لدول عربية كثيرة خذلها قادتها ويريدون خذلان غزّة وحماس والقضيّة الفلسطينية برمتها.
وط، ذلك أن الخوف الحقيقي ليس من أن يهزمنا الأعداء ونحن ثابتون على الحق ولكن الخوف كل الخوف من ألاّ نلتزم بدين الله فنستسلم أو نهزم بغير حرب كما حدث _مع كلّ أسف_ لدول عربية كثيرة خذلها قادتها ويريدون خذلان غزّة وحماس والقضيّة الفلسطينية برمتها.
ونختم بقضية هامّة هي أن واجبنا أن نصنع النصر لا أن ننتظر من يصنعه فنبقى في قاعدة الانتظار وغيرنا في ساحات الوغى والإنجاز والتغيير.
وبعد، فنحسب أن غزّة جمعت كل هذه المعاني المتعلّقة بالنصر وهي في أتون المحرقة اليهودية والتواطؤ الإقليمي، فهي _بقيادة حماس ومعية فصائل مجاهدة_ تقدّم التضحيات وتصبر على البلاء وتثق في نصر الله فتتألّم ولا تنكسر وتتوجّع ولا تموت وتتحمّل البأساء والضراء والزلزلة المادية والنفسية بفعل إجرام اليهود وتصنع النصر للموعد الّذي حدّده القدر الإلهي، كل هذا وهي مستمسكة بحبل الله لا تتزحزح عن انتمائها العقدي الّذي يساومها عليه المساومون متشبثة بسلاح المقاومة مقدامة بلا خور ولا تراجع لا تنتظر أن يصنع لها أحد النصر إلاّ الله عزّ وجلّ، فهي منتصرة لا محالة ويكفيها فخراً أن رفعت تحدّيا عجزت عنه دول “كبيرة” وصمدت أمام جيش يظنّ الخوارون أنّه لا يغلب، أفليست بهذا تستحقّ النصر؟ وإذا لم يرفع علم فلسطين في القدس خالد مشعل فسيرفعه أبناؤه وأحفاده لا محالة، وإذا لم يصل إسماعيل هنية في المسجد الأقصى فسيصل فيه تلامذته من غير شكّ، فقد أثبت هؤلاء الأبطال المجاهدون أنّهم أهل للانتصار، ويكفيهم أنّهم طووا صفحة التخاذل التي كتبتها الأنظمة العربية وفتحوا صفحة ناصعة تكتبها الجماهير المؤمنة بحقّها الملتفّة حول راية المقاومة والصمود، ولن يكون غد العرب مثل أمسهم بفضل الله وبفضل بشائر النصر المنبعثة من غزّة الّتي أوقدت جذوة لن تخبو أبداً بإذن الله حتّى تتحرّر فلسطين بل حتّى تتحرّر البلاد العربية من الاستبداد والاستسلام… هذا هو النصر الّذي توقعه غزّة بدماء أبنائها.
“ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا”
عبد العزيز كحيل