كنت أمتطي الكلمات حين يعتريني الأمل يا وطني، وأركض خلف القوافي وسط هذه الغابة. والآن يشتدّ الألم، تعتصرني الحسرة، وسط هذا الجنون الدموي. وكأن التتار عادوا يحملون نجمة داود السداسية، ومن خلفهم يلهث حملة شعار (الهولوكوست)، محرقة انهالت فوق شعبي، لتجعل من الأسطورة حقيقة.
أنا إنسان يا قتلة، لحمي قابل للشواء، وروحي مترددة في البقاء طويلا في زحمة الأجساد الممزقة.
شهداء – كيف لي أن اسمّي الطفل الرضيع، وامرأة فقدت أنوثتها حين اندلق الزوج والأخ والحبيب قتيلاً إلى جانبها.
لا أملك سوى الصمت. لأنني إنسان، للمرة الأولى أصمت طِوال هذا الوقت يا متنبي، ربما لأني كسرت القلم في عين العدالة، ولا أقدر على قتل الحلم حتى بعد أن يعلن الموت حضوره القويّ في متاهات النهار.
لا أملك سوى لعنة اللغات الغريبة عن وجداني، كلغة الصاروخ الموجه، يحمل توقيع طفل إسرائيلي، قد يصبح يوما قاتل ابنتي، لكني قادر على اجترار ألمي، وسأقاسمه حلوى البيت، إذا سال لعابه لهفة، فأنا إنسان، وسأحتفظ لنفسي بهمّي، وحبي، وغرامي وقصائدي، وذكرى ليمونة تنشر أوراقها الدقيقة في شرايين الذاكرة.
يا زيتون بلادي، لا تستمع لنحيب الهواء في الخارج، احتفظ بعصارات التاريخ في جوفك، احتفظ بخارطتك الجينية، أورِثني بعض شجونك، لا تحرمني من موّال عابر، جدّي مات مرة واحدة، لم يمرض خلال حياته إلا عندما انفتح القبر، دعاه الملاك إلى المثوى الأخير، عندها ذهب إلى الزيتونة، وغنى، ثم اضطجع وقت الظهيرة، لم يودّع أحداً، ومات وحيداً بين أحضان الوطن.
من يفهم هذه الحكاية؟ هذه قصة ولادة يا وطني. أقصّها أمام حشود صمّاء، كيف يدركون ولادتي وسط هذا الموت؟ ولا أملك سوى الصمت، لأني أقول الكثير صامتاً، وأولد بعد موتي المتجدّد كلّ لحظة.