احذروا من تكرار نفس الأخطاء
مصطفى إنشاصي
كنت قررت التوقف عن الكتابة لفترة لأني رأيت أنه لا صوت يعلو فوق صوت الضجيج الذي نسمعه مِمَنْ تستضيفهم تلك الفضائيات وكأنه لا يوجد في الأمة غير تلك الوجوه مَنْ يفهم أو يستطيع قراءة الحدث والتحليل، ومعظمهم تشعر أنهم فاقدون لأي رؤية للصراع وفهم الواقع واستيعاب تجارب التاريخ ومتغيراته، ويرددون نفس الكلمات وكأنها لقنت لهم، أو يدركونها من خلال الخبرة بما يرضي الطرف الذي ينشدون رضاه، أو أنهم ينتمون إلى مَنْ يدافعون عن مواقفهم الخطأ منها والصواب. كنت قررت التوقف عن الكتابة إلى أن يهدأ ذلك الضجيج ونقشع غبار حرب الإبادة الدائرة، والاكتفاء ببعض المقالات التي نشرتها ونصحت فيها بتصحيح الخطأ الذي ارتكب عندما أدخلوا مقاومة شعبنا في دائرة المساومات والصراعات الإقليمية من أجل تحقيق مصالح شخصية وحزبية، وإخراج المقاومة من أي معادلة أو اتفاق يتم التوصل له لإنهاء هذه حرب القذرة، حرب الاستئصال والإبادة لأهلنا في غزة، ولِما تبقَ مما يمكن أن نسميه مقاومة! فهي إلى جانب أنها تستخدم فيها أسلحة محرمة دولياً ولم تستخدم في أي حروب سابقة، فهي لا أخلاق فيها ولا قيم، تستهدف المدنيين والمستشفيات والطواقم الصحية والصحفيين والمؤسسات الدولية الأنروا ومدارسها ومخازنها الغذائية، والصليب الأحمر ومشافيه …إلخ، يشارك فيها العالم أجمع الصامت منهم والمتكلم على استحياء، فالجميع مشارك في إبادة أهلنا وليس برئ!
ولا عُذر لِمَنْ يتصدر للقيادة وهو ليس أهلاً لها سواء كان لنقص في قدراته الذاتية، أو لعجز قدرته على السمو عن الضعف البشري والميل لحب القيادة والظهور على حساب آمال وطموحات الأمة والجماهير، أو لنقص في ثقافته وعلومه بتاريخ الأمم وثوراتها وما يصلحها أو يفسدها، أو لجهله بمكانة القضية المركزية للأمة ودور أهل فلسطين فيها ودور الأمة في تحريرها، أو لقصور لديه في معرفة تاريخ الثورات الفلسطينية وعدم قدرته على التعلم من تجاربها ودروسها، وإدراك أنها جميعاً تم إجهاضها في العواصم العربية، بسبب الخلافات والتجاذبات العربية الخاضعة للمعادلات السياسية الإقليمية والدولية على حد سواء، واستخدام بعض الأنظمة للقضية في صراعاتها على الزعامة! فضلاً عن معلومات أعرفها ويعرفها بعض من عرف عن قُرب بعض أولئك القادة الذين يبيعون الجماهير والعالم وطنية، وأنه لو حدث لأهل غزة كذا أو كذا لن نوقف المقاومة، ولن.. ولن..، ولو عرف المخدوعين بهم حقيقتهم لكان لهم موقف آخر، وليس وقت الحديث عن كثير من الأحداث ومسبباتها وما جرته على غزة وقضية الأمة من ويلات الآن.
بدون مقدمات ولا تنظير ولا كثرة كلام لا جدوى منه، أكتب ما رفضت كتابته من أيام؛ وأنا أستمع إلى المبادرات المطروحة لإنهاء حرب الإبادة اللا أخلاقية تلك، ورد المعنيين مِمَنْ مازالوا يسمون أنفسهم فصائل مقاومة على تلك المبادرات، تلك الردود التي تقزم قضية الأمة ومقاومتها؛ مرة بحصرها واختزالها بأهل غزة ومقاومتهم، ومرة بتوسيع الدائرة ليجعلوا منها معركة فلسطين كلها في الضفة وغزة، بهدف تحريض أهلنا في الضفة للصدام مع السلطة وإسقاطها؟! ولا أحد يقدم رؤية تحترم عقولنا وتعيد لقضية الأمة اعتبارها، والتأكيد على أن تلك الحرب الصهيونية الهمجية القذرة في غزة، لا تستهدف أهل غزة ولا ما تبقَ لهم من اسم المقاومة ولكنها تستهدف الأمة جميعاً، وأنه لو استسلم أهلنا في غزة ورفعوا الراية فلن تسلم لا عاصمة من عواصم الوطن، ولا بيت من بيوت الأمة إلا وسيستباح من بني يهود (أشد الناس عداوة للذين آمنوا)، لعل الأمة تفيق وتدرك من وسط ذلك الضجيج الذي يزيف وعيها ويزور تاريخها ومستقبلها، ويشارك في تصفية قضيتها، مخاطر تمرير تلك المبادرات مهما تم تعديلها؛ وأنه يجب التأكيد الجدي والحازم بكل وضوح وصراحة فيها على إخراج حق أهلنا في المقاومة من تلك المبادرات، ورفض الاستجابة لها حتى ولو أبيد آخر فرد في أهل غزة، فغزة لم يعد فيها ما تخسره، ولا يمكن أن يُقبل بعد تلك التضحيات وذلك الحجم من الدمار الذي لحق بها أن نعود إلى نفس المربع الأول، ونفرط في حقنا في المقاومة ويكفي أنه تم اختزلها في صاروخ وكأننا نخوض معركة التحرير الأخيرة مقابل: انسحاب العدو إلى حدود ما قبل الحرب، وفتح المعابر ورفح الحصار ووقف ما يسمونه (إطلاق النار)!.
لأنه إن كان العدو سعى من وراء همجيته إلى إكراه جماهيرنا في غزة على الاستسلام ورفع الراية البيضاء من أجل تغيير الوضع الأمني فيها كما زعم، تمهيداً للتغيير وضع الوطن كله وإعادة تشكيل ورسم خريطته السياسية والجغرافية والسكانية والاقتصادية والثقافية و… و…كل ملامح وجودنا في المستقبل، فإنه يجب علينا أن نغير نحن الوضع الأمني في غزة وفلسطين والوطن كله، ونفرض قواعد لعبة سياسية جديدة تحطم معادلة الصراع التي حكمتنا طوال
عقود، وأن نجعل هذه الحرب بدل أن تكون حرب إبادة لنا أن تكون حرب إبادة للوجود الصهيوني في وطننا كله، وبداية حرب التحرير الحقيقية التي تأخذ فيها الأمة دورها بدء من تغيير أنظمتها إلى تحرير قلب الأمة والوطن. فغزة لم يبقَ فيها ما تخسره، ولم يبقَ في بنك أهداف العدو ما يدمره! وبعد عشرون يوماً من تلك الوحشية منقطعة النظير لم يحقق العدو أي إنجاز أو هدف من أهدافه على الأرض، وبدأ الوقت يعمل لغير صالحه وخاصة فيما يتعلق بوضعه الداخلي، وعدم قدرة جيشه البربري في تحمل حرب برية أطول من ذلك، ولا مواطنيه على تحمل تكاليف ومعاناة حرب عبثية خاسرة أكثر من ذلك أيضاً. لذلك خير لنا أن نباد جميعاً، ولن يستطيع العدو فعل ذلك، من أن نعود للمساومة على حقنا في المقاومة، لما لذلك من مخاطر ليس على فلسطين وحدها ولكن على الأمة والوطن جميعاً.
عقود، وأن نجعل هذه الحرب بدل أن تكون حرب إبادة لنا أن تكون حرب إبادة للوجود الصهيوني في وطننا كله، وبداية حرب التحرير الحقيقية التي تأخذ فيها الأمة دورها بدء من تغيير أنظمتها إلى تحرير قلب الأمة والوطن. فغزة لم يبقَ فيها ما تخسره، ولم يبقَ في بنك أهداف العدو ما يدمره! وبعد عشرون يوماً من تلك الوحشية منقطعة النظير لم يحقق العدو أي إنجاز أو هدف من أهدافه على الأرض، وبدأ الوقت يعمل لغير صالحه وخاصة فيما يتعلق بوضعه الداخلي، وعدم قدرة جيشه البربري في تحمل حرب برية أطول من ذلك، ولا مواطنيه على تحمل تكاليف ومعاناة حرب عبثية خاسرة أكثر من ذلك أيضاً. لذلك خير لنا أن نباد جميعاً، ولن يستطيع العدو فعل ذلك، من أن نعود للمساومة على حقنا في المقاومة، لما لذلك من مخاطر ليس على فلسطين وحدها ولكن على الأمة والوطن جميعاً.
لذاك يجب أن يتذكر مِنْ يرون أنهم أصحاب الكلمة الأخيرة في تمرير أي مبادرة لوقف الحرب، أنه عليهم ألا يعيدوا تكرار ذلك الخطأ الذي وقعوا فيه عندما تذكروا فقط ما يمكن أن يحققوه من مكاسب حزبية وشخصية عندما وافقوا على المشاركة في العملية السياسية، ولم يتذكروا ما سيلحق بالأمة من ضرر عندما يتم تجميد انتفاضة أهلهم ومقاومتهم في فلسطين، نتيجة تراجع ذلك في المد والحراك والتفاعل الجماهير مع أهل فلسطين الذي أفشل كل مشاريع اختراق الأمة وفرض التسويات المذلة عليها، وأنه لولا ذلك الخطأ ما كان حدث الانقسام في فلسطين، ولا عقد مؤتمر أنابولبيس، ولا مؤتمرات ما يسمى (بحوار الأديان السماوية) ولا …ولا… كثير مما حققه العدو بعد أن جمدنا المقاومة وأوقفنا الانتفاضة وانغمسنا في الصراع الداخلي دون الاعتبار من تجارب ودروس الماضي القريب! يجب أن يتذكر أولئك أنهم إذا عادوا لتكرار الأخطاء السابقة وانسحبت الجماهير من الشارع وعادت إلى بيوتها فإن العدو سيمرره في الشهور القادمة ما فشل في تمريره في السنوات الماضية!
كما يجب أن يتذكر مِنْ يرون في أنفسهم أصحاب الكلمة الأخيرة في تمرير أي مبادرة لوقف الحرب أن أمريكا بعد هزائمها وفشلها في أفغانستان والعراق، وبعد الانهيار الذي أصاب النظام الاقتصادي الذي تتزعمه، والكساد والبطالة وعجز الإدارة الأمريكية عن الحفاظ على توفير نفس المستوى من الرفاه لمواطنيها، وانكشاف حجم الديون الأمريكية وضعف الاقتصاد المدني الأمريكي …إلخ، أن ذلك يمنع أمريكا من خوض مغامرات حربية جديدة، وأنه يجب استثمار تلك الظروف والتغيرات في تغيير الوضع الأمني ومعادلة الصراع في وطننا، والإصرار على تركيع العدو مهما كلفنا ذلك من تضحيات لن تزيد عما قدمناه حتى الآن كثيراً.
ولا ينسى أولئك أن النصر صبر ساعة، وأن المسلمين لم يهزموا يوماً من قِلة، وأن أهم المعارك التي فشلوا فيها وكان ممكن أن يغير انتصارهم فيها وجه التاريخ، كانت بسبب الاستعجال على جني الغنائم، ولنتذكر جميعاً قوله تعالى: (إنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يردون). وليستحضر الذين قد يقبلون بانتصار سياسي هزيل يحقق لهم بعض الغرور؛ كاعتراف ضمني بهم ومنحهم دور ما هنا أو هناك، يمكنهم تصويره انتصار للمقاومة، وكما علمت أنهم يحضرون من الآن للاحتفال بالنصر المؤزر والناس تباد وتقتل والبيوت تدمر وتهدم فوق رؤوس ساكنيها، وشلال الدم نازف! فليستحضروا أنهم يراهنون بدماء وتضحيات الجماهير ومصير الأمة والقضية على عدو لا يفِ بعهود ولا وعود، وأنه لن يتوانَ بعد أيام أو أسابيع أو شهور في العودة للمماطلة وخرق ما تم الاتفاق عليه، ونعود ثانية من حيث بدأنا!! فينطبق علينا قوله تعالى: (كالحمار يحمل أسفارا). وقوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم). أقصد بذلك ما كان يحتج به مَنْ يحضرون لاحتفالات النصر من الآن على السلطة وما وقعته من اتفاقات، بأن العدو لا يحفظ العهود، ويتلون عليهم قوله تعالى: (كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم)! ليذكروا هم أيضاً أن العدو لم يفِ بشروط التهدئة السابقة على الرغم من حجم التفريط الذي تم فيها، وعلى الرغم مما حققته من أمن للمغتصبات الصهيونية حول غزة، وما أعطته له من غطاء لمواصلة تهويد القدس واغتصاب الأراضي في الضفة …إلخ، فهل سيفي بأي اتفاق جديد؟!!.