سعيد مبشور
عديدة هي دلالات التحرك الشعبي والرسمي العالمي تجاه المجازر التي ارتكبتها آلة الإرهاب الحربي الصهيوني، في حق الشعب الأعزل داخل أراضينا في غزة، وغير محدود أيضا حجم الخسائر في الأرواح والممتلكات من جراء الدمار الذي لحق البشر والشجر والحجر في القطاع، وهي المذابح التي خلقت رأيا عاما عالميا مضادا للتوجهات الدموية للكيان الصهيوني، وسرعت بإصدار قرار دولي حتى وإن كان بائسا وغير ذي جدوى.
وبالموازاة مع التحركات العربية الخجولة والضامرة، كانت هناك عدة إشارات ومطالبات ومشاريع مبادرات دولية، تجاوز بعضها كل السقوف التي حددها القادة العرب لتحركاتهم، بل إن بعض القادة على المستوى العالمي كانوا أكثر عربية من العرب أنفسهم حينما أحرجوا النظام السياسي العربي بمواقف تفاعل معها الشارع والرأي العام، وعرت هشاشة هذه الأنظمة وزادت من تعميق الفجوة بينها وبين شعوبها.
من غزة إلى كراكاس: واشافيزاه
لعل مواقف الرئيس الفينزويلي هوغو شافيز من العدوان الهمجي على غزة، قد زادت من ثقل رمزيته بين شعوب العالم المستضعف، وزكت مكانته كأحد الواقفين في طابور الممانعة العالمي الصامد ضد التوجهات الوحشية لقوى الهيمنة والاستكبار وتمثلاتها بمختلف مناطق المعمور.
وحين قام شافيز بتجميد علاقاته الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، والمطالبة بإحالة مجرمي حرب الإبادة بالأراضي الفلسطينية على محكمة الجنايات الدولية، والتأثير على بعض دول أمريكا اللاتينية لتحذو حذوه، فإنما كان يعبر عن النهج الأصيل لقوى اليسار العالمي في مناهضتها الجذرية للإمبريالية وإرادات الهيمنة والتوسع، ووقوفها إلى جانب قوى التحرر وحركات الاستقلال كيفما كان توجهها ولونها الإيديولوجي، وأعاد إلى الأذهان والأعين بريق العقود التي كانت فيها الجسور ممتدة بين كافة التيارات الشعبية عبر العالم، في المشروع الأممي لتحرير الأرض والإنسان.
فضلا على أن مواقف الرئيس الفينزويلي هي إشارة أكثر من واضحة إلى اليسار العربي ومعه القوى الإسلامية، للوقوف جنبا إلى جنب في معركة الكرامة الفاصلة التي تدور رحاها للمرة الألف على الأراضي الفلسطينية، وتناسي فواصل الإيديولوجيا، وتكثيف فكر وممارسة الوحدة، وتوحيد برامج الفعل وأرضيات النضال، وتجاوز محطات الخلاف والاصطدام، والالتفاف حول وعي وثقافة ونهج المقاومة وأسلوب حركتها.
وهي رسالة إلى النظام الرسمي العربي، مفادها أن الزمن الأمريكي في السطوة والهيمنة قد آل إلى الأفول، وأن نهاية الكابوس وشيكة، تؤكدها الأزمات المتوالية التي تتعرض لها بنية النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وأن الاصطفافات القادمة ستكون حتما عكس أماني الأمريكيين وحلفائهم، وأن شعوب ودول العالم المستضعف لا يمكن أن يظلوا رهائن خطط واستراتيجيات وإجراءات الإخضاع والتركيع، وأن المسلك الذي ينبغي أن تعبره بلداننا هو تحقيق كفايتها الذاتية معرفيا وتقنيا واقتصاديا وعسكريا، حتى تستطيع مخاطبة العالم ومحاورته من موقع القوة والقدرة سياسيا، وحتى تتمكن من إذلال عدوها الأساس المتمثل في الكيان الصهيوني.
لقد استوعب هوغو شافيز حالة الحرج والمأزق الذي يمر منه تحالف قوى الهيمنة والاستكبار العالميين، وبنى مواقفه الأخيرة على هذا الاستيعاب، في حين تجمدت الانفعالات الرسمية العربية عند حالة العجز التي ترتبت عن سنوات الهزيمة والانكسار، وهي الحالة التي ينبغي تجاوزها من خلال قراءة جديدة لأجواء اللحظة التاريخية ومفاهيمها النشطة وتحولاتها الجديدة.
أردوغان: انتفاضة الباب العالي
مذبحة غزة كانت صدمة بالنسبة للساسة الأتراك، عبر عنها رجب طيب أردوغان من خلال ردة فعله العنيفة حيال الهجوم البربري على غزة، وهو الذي كان مع أولمرت قبيل العدوان في لقاء وصفته أنقرة بالإيجابي، في سياق رعايتها للمفاوضات الغير مباشرة بين الدولة العبرية والجمهورية العربية السورية.
إن مسلكية أردوغان لها دلالات كثيرة على مستوى القضية الفلسطينية، حيث إنها في المقام الأول صلة لما قد انقطع من مواقف لم يكن آخرها موقف السلطان عبد الحميد الثاني في المفاوضات حول القدس، واستدعاء للتاريخ العثماني، عبر عنه أردوغان خلال خطابه بخصوص الاعتداء الصهيوني على غزة أمام البرلمان التركي، وهي في مقام آخر نقلة نوعية لمستوى التعاطي مع الصراع العربي الإسرائيلي، إذ أن القضية الفلسطينية ظلت على مدى عقود متوالية قضية مركزية في مفكرة أغلب الأنظمة العربية، وكان شعار كل مراحل دعم الكفاح الفلسطيني هو عربية القضية، بينما يشكل دخول تركيا على الخط، ومعها بعض الدول الإسلامية الأخرى بمستويات أقل بريقا وتأثيرا، نقل القضية الفلسطينية عمليا إلى حالة أممية إسلامية، ما يعني اتساع نطاق الدعم لحركة التحرر الفلسطيني، وإعطاء بعد أقوى لمطالب الشعب الفلسطيني في ارتباط مع العالم الإسلامي هذه المرة، وليس فقط على صعيد الوطن العربي.
إن البعد الإسلامي للقضية الفلسطينية، كان حاضرا وبقوة في بداية الكفاح الوطني الفلسطيني، كما كان حاضرا في مختلف مراحل كفاح الشعوب العربية من أجل الاستقلال، واتسمت شعارات المراحل الأولى من العمل الوطني بطغيان الخلفية العقائدية الإسلامية عليها، إلا أن هذا الخطاب سرعان ما
سيبدأ في الخفوت مع تصاعد اللهجات القومية والاشتراكية وتزعم النخب المشبعة بالثقافة الغربية في المجتمعات العربية لواجهات النضال من أجل التنمية والتحرير.
ومع صعود المد الإسلامي، وخصوصا بعد الثورة الإيرانية، وتبني نظام الثورة للكفاح الفلسطيني، من خلال احتضان بعض التنظيمات الفلسطينية، وإعلان يوم القدس العالمي، ونصب العداء العلني للولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وغيرها من المفاعيل، وفي مقابل تراجع دور الحركات القومية واليسارية العربية، كانت الحركات الإسلامية تنتعش في الجامعات والمنتديات الثقافية والفكرية خلال بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ومع هذا الانتعاش كانت الفكرة الإسلامية تتطور في اتجاه استيعاب مختلف القضايا والإشكالات ذات العلاقة بمستقبل المنطقتين العربية والإسلامية، وهكذا تراجع الموقف القومي والماركسي أو الاشتراكي لصالح نظيره الإسلامي، الأقدر خلال هذه المرحلة على التأثير في أجواء العمل العربي على جميع المستويات.
أما فلسطينيا، فقد أثمر انخراط الإسلاميين المباشر وتحت يافطة مستقلة، بروز تنظيمات وفصائل جديدة، انبعثت من رحم الكفاح الوطني، وتفاعلت مع المتغيرات الإقليمية الجديدة، وبالتالي أفرزت حركة إسلامية حملت مشعل الثورة الفلسطينية، وتحركت بعناوين وشعارات وتعبيرات مغايرة لتلك التي ظلت تترجم حركة النضال الفلسطيني، إلا أن خصوصية الساحة الفلسطينية طبعت خطاب الحركة الإسلامية في داخلها، وأغنت من خلاله طبيعة الوعي الفلسطيني المتقدم فكريا وسياسيا.
وبالعودة إلى مواقف تركيا، وإضافة إلى ما سبق، فإنها أربكت حسابات الفاعلين العرب في المنطقة، ورأى فيها البعض مزايدة على الدور الإقليمي الإيراني، ومحاولة لتنشيط الدور التركي في المنطقة بما يشكل ورقة ضغط أساسية في مفاوضات الأتراك مع أوربا على الخصوص، ومهما تكن الدواعي والخلفيات، فإن توسيع دائرة المتعاطين مع القضية الفلسطينية دوليا وإسلاميا، وأمام تراجع الدور العربي، من شأنه أن يشكل رافعة للنضال العربي وليس العكس، وقد يكون عنوانا للمرحلة القادمة من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ومدخلا مناسبا لفرض حقائق جديدة على الأرض، مفادها أن على الصهاينة البحث من الآن عن أوراق غير تلك التي احترقت في أيديهم مع احتراق غزة..
لماذا لم يدقوا جدران الخزان ؟
سؤال شهير ورد على لسان أبي الخيزران أحد أبطال رواية “رجال في الشمس” للشهيد غسان كنفاني، واصفا حالة الاستعصاء التي وصل إليها الوضع الفلسطيني حال النكبة، وهو السؤال الذي قد يتكرر في نكبة اليوم، وبصيغ مختلفة من الجمع العربي، وبكل حروف العلة، تماما مثل السؤال الذي يرد الآن على الألسنة الشعبية والإعلامية العربية والإسلامية، لماذا لم يتفقوا على عقد القمة؟ ولماذا لم ينصت العرب إلى منطق المقاومة على الأرض؟ وكيف لم تتفتق عبقريتهم على استغلال خلافاتهم في تحقيق التكامل بين رؤيتي التسوية والمواجهة كما دعا إلى ذلك الأستاذ شفيق الحوت، وأصروا على تعليق غزة على مشنقة الانقسام الفلسطيني، في الوقت الذي يكرسون فيه الانقسام عربيا على حد تعبير المفكر العربي منير شفيق، ولماذا لا تتجه أطراف عربية إلى إنشاء ترويكا جديدة كالتي اقترحها الدكتور عزام التميمي من خلال إضافة إيران وتركيا وماليزيا إلى لائحة المتحركين عربيا وإقليميا، وتعزيز الدور العربي بالإسناد الإسلامي؟
لن ندخل هنا في دوامة التخوين واتهام البعض الرسمي بالتواطؤ والتآمر، ولنتساءل بدورنا انطلاقا من مبدأ حسن النوايا، عن طبيعة الاتجاه الذي تقود إليه الأخطاء الكبرى للنظام الرسمي العربي، وهي كما في لعبة الأخطاء السبعة، كانت مخفية، حتى فضحتها ألوان الدماء المنبعثة بسخاء من غزة، وهو الثمن الباهظ الذي يدفعه الفلسطينيون كل مرة من أجل حماية ظهورنا وعوراتنا، كلما تداعى إلى قصعتنا أكلة الحقوق والتاريخ والجغرافيا، فتنوب عنا أجساد من سقطوا من النساء والصغار، ولسان حالنا يكرر ما جاء في رواية أخرى للشهيد كنفاني وهي “عائد إلى حيفا”، حين ورد على لسان أحد أبطالها: “أرجو أن يكون خالد قد ذهب …. أثناء غيابنا “!.
سعيد مبشور – كاتب مغربي
[email protected]
الدار البيضاء في 14 يناير 2009