»قصف إسرائيلي بري وبحري وجوي هو الأعنف حتى الآن على قطاع غزة«. هذا ما نقله، صباح أمس الأول، مراسل »الجزيرة« وائل الدحدوح. رفع وائل بعض الشيء أكتافه في حركة لاشعورية، كمن يتجنب الإصابة. وكأن خوذته وسترته الواقيتين لم تعودا تشعراه بالحماية. ومع ذلك، بقي يتسابق وأصداء الصواريخ المتفجرة، لإيصال صوته بوضوح إلى مكتب القناة في قطر.
قرابة ظهيرة ذلك اليوم، وفيما كان الدحدوح يواصل صموده »المهني« وسط جنون القصف، تعرض منزله لقذيفتين حارقتين خلفتا فيه دماراً هائلاً. انتظر تراجع الدبابات الإسرائيلية ليتفقده. تأثر لهول المشهد، ولكنه حمد الله، لأنه كان أجلى عائلته قبل أيام »وإلا لكانوا كلهم ماتوا«، يقول لـ»السفير«.
تماسك، وكما يستقوي يومياً على هول مشاهد المجازر الإسرائيلية من حوله، تابع نقل رسائله مباشرة على الهواء: »سيطرت على هواجس تتعلق بإمكانية استهداف عائلتي حيث هي«.
هذا »القطوع« كان سبقه آخر، يوم الاثنين المنصرم، شعر خلاله الدحدوح وفريق عمله أنهم أصبحوا قاب قوسين من الاغتيال المنظّم للصحافيين: وردت اتصالات هاتفية من الجيش الإسرائيلي تنذر بوجوب إخلاء المبنى الذي يقع فيه مكتب »الجزيرة«، خلال خمس دقائق، لأن هناك استهدافاً لإذاعة »القدس« (تقع في المبنى ذاته)، فغادره الجميع من دون أن يتمكنوا حتى من إخراج الوثائق الضرورية والمعدات الخاصة بعملهم. لاحقاً تبين ان ما حدث ليس سوى فصل من فصول التهويل الإسرائيلي على الإعلاميين، إذ نفى الجيش الإسرائيلي التحذير، خلال اتصال به أجراه مكتب القناة في القدس.
يرابض الدحدوح كغيره من الزملاء في دائرة الخطر منذ بدء العدوان على غزة. لكنه يتمايز بوتيرة إطلالاته المكثفة على الشاشة ومتابعته الدائمة لدقائق الحدث، ما يزيد من احتمال تعرضه للخطر. بات جزءاً أساسياً من الصورة في ذهن المشاهد، والمصدر الميداني الأول للخبر. وولدت بينه وبين المشاهد طوال ١٨ يوماً علاقة إنسانية ووجدانية، بات معها المتلقي يحرص على تفقده والاطمئنان عليه في كل إطلالة له، قبل سماع تقاريره.
الدحدوح ابن الثمانية والثلاثين عاماً، متزوج، ولديه ستة أطفال (أربع بنات وصبيان)، يعيش قلقاً مضاعفاً، فهو »وزّع« عائلته على منزلين، لا منزل واحد، لأقارب ومعارف تحسباً. وما يزيد من حدة القلق انعدام التواصل معهم أحياناً للاطمئنان عليهم بسبب تعطل شبكة الاتصالات الهاتفية من حين إلى آخر.
كل يوم يستيقظ فيه الدحدوح سالماً يشعر أنه مكسب إلهي إضافي. هو الذي يقضي لياليه، في مكتب القناة في غزة، يرافقه أربعة من زملائه هم: وسام حماد، سمير أبو شمالة وتامر المسحال، تنضم إليهم في النهار هبة العكيلي.
منذ أربعة أيام، استغل الدحدوح وحماد فرصة إعلان وقف اطلاق النار لثلاث ساعات، وقصدا المتجر لشراء بعض المعلبات والماء والخبز (طعامهم اليومي)، بعد نفاد المؤونة التي كانت متوفرة. وقد هالهم مشهد الطوابير أمام الأفران، والتي اضطر الناس بنتيجتها إلى الانتظار لسبع أو ثماني ساعات، للظفر بربطة الخبز.
يعمل الدحدوح في »الجزيرة« منذ خمس سنوات كمراسل في غزة، إلا أنه يخوض اليوم التجربة الأشرس والأكثر وجعاً. يقول لـ»السفير«: »غزة هي منطقة الحدث منذ سنوات طويلة، من حيث الاجتياحات والغارات والقصف الذي يستهدفها، إلا أن العدوان عليها هذه المرة يشبه الحرب الكلاسيكية الضروس، لجهة حجم الدمار وعدد الشهداء والجرحى. نشاهد صوراً مرعبة وبشعة، في كل متر يمكن أن تقع عينك على شهيد أو جريح«.
لكن ليس الواجب المهني فحسب، هو الذي يملي عليه التماسك في ظل رائحة الموت المنتشرة: »إنه الواجب الوطني أيضاً، أنا فلسطيني أنتمي إلى هذه الأرض وناسها، ويهمنا أن ننقل للعالم حجم الكوارث التي تحل بهذا الشعب«.
»نشعر أننا يمكن أن نكون هدفاً للغارات في أي لحظة، يقول الدحدوح، وأن يكون أحدنا مشروع شهيد. نعمل أحياناً على مرأى من المقاتلات الإسرائيلية، وقد لا تبعد عنا أحياناً أخرى أكثر من أمتار. خصوصاً أن خمسة صحافيين استشهدوا في غزة حتى الآن. علماً أن المبنى الذي يقع قبالتنا، وفيه مكاتب عدد من الفضائيات العربية، استهدف بصاروخ منذ خمسة أيام، تسبب بجرح زميل«.
وائل الدحدوح وجه على شاشة »الجزيرة« يبعث على الصمود. لا يثنيه الخطر عن إيصال الرسالة، كما لا يعيقه عن ذلك التعطل المتكرر للشبكة الهاتفية الفلسطينية، فيستعيض عنها بشبكة »الثريا« عبر الأقمار الصناعية. وفي حال التشويش عليها جراء تحليق المقاتلات، ينتقل الى الشبكة الإسرائيلية.. المهم ألا يخفت الصوت ومن قلب ميدان المعركة.
عن “السفير”