“أخشى ما أخشاه أن تتحول الخيانة إلى وجهة نظر”، عبارة قالها القائد الفلسطيني الراحل صلاح خلف (أبو إياد) ذات مرة، فلا تلبث تعن على البال كلما أطلق أحدهم المصطلح المزعوم “الواقعية السياسية”.
لعل أبو إياد قال عبارته تلك من وحي مواقف تعرّض لها وشاهدها شخصياً، بيد أنه ربما استشرف المرحلة المغرقة في السواد، التي ستدخلها القضية الفلسطينية، تماماً كما هي الآن. ما تعانيه القضية حالياً، هو نسيان المربع الأول الذي انطلقت منه شرارتها، فالعالم نسي أن فلسطين كانت بيتاً آمناً لساكنيها العرب من الديانات كافة، وإذ بثلة من اللصوص ينقضّون عليها، فما كان ممن هم ممسكون بزمامها فلسطينياً وعربياً وعالمياً إلا أن باتوا مع تقادم السنين، بل وربما منذ البدء، ينسون هذا الأساس، وينطلقون نحو ذرائع تسوّغ للص وجوده، بل وتملي على المجني عليه قيماً أخلاقية في صد هذا اللص، إن لم تكن دعوات للتعايش معه أيضا!
من العار أن يُنسى هذا الأساس، عندما يُطلَب من المجني عليه التعاطي بأخلاقية أو بحسابات إنسانية مع من اقتحم البيت وطرد ساكنيه، وأهلك الحرث والنسل.
من يُدينون المقاومة هم أول من تنطبق عليهم مقولة أبو إياد، ومن يصرّون على حصرها في فصيل ديني أو سياسي بعينه، تنطبق عليهم المقولة كذلك، فهم بحجة وجهات نظر عدة يسوّغون الخذلان وبمعنى أدق “الخيانة”، كما سمّاها أبو إياد.
المقاومة تحتاج إلى أيديولوجية وتنظيم. لا شك في ذلك. بيد أنها فطرية بالمقام الأول، ما يعني أن “الكلاشن” والصاروخ يقاوم، وكذلك “مغرفة” الطبخ تقاوم أيضاً، فكلمة انتفاضة قليلة على ما يجدر بالفلسطينيين في الأراضي المحتلة، تحديداً، عمله، إذ لا بد أن يهبّ إعصار ثورة يحصد كل الطغاة، وبمشاركة من الجميع هناك، كلٌ على قدر استطاعته.
كي يقف هؤلاء الذين “يدهلزون” الخيانة، تحت ذريعة وجهات النظر، وقفة محرجة ومخزية، فإن على النبض الشعبي ألاّ يتخلى عن مقولة أبو إياد. واستناداً إلى تلك المقولة، يكون من يستضيف إسرائيلياً في منزله أو مكتبه، “خائنا” وإن برر ذلك بالانفتاح على الآخر وتقبله. كذلك يكون حال من لا يستلذّ بأطعمة ولا ينعم بألبسة إلا تلك المباعة في المحال الصهيونية، بذريعة أن حفنة من الورق المالي العربي، لن تضر القضية أو تنصرها. وأيضاً هو حال من ينسى ويُنسي أولاده عامداً متعمداً قضية فلسطين ومأساتها، بذريعة عدم الرغبة في زجّهم بغياهبها.
كثيرون هم “الخونة” إذا طبقنا مقولة أبو إياد، بل إن حالاتهم لا تكاد تعدّ ولا تحصى إن طبقنا تلك المقولة بحذافريها وأبعادها.
وقياساً على القول المعروف: “اللهم ارزقني إيمانا كإيمان العجائز”، فإنه حري بكل فلسطيني وعربي ومسلم أن يقول “اللهم ارزقني إيمانا بالقضية الفلسطينية ونصرة لها كإيمان ونصرة رعيل المجاهدين الأول، كعبد القادر الحسيني وعز الدين القسام وبهجت أبو غربية وأحمد الشقيري”.
العودة لأساس القصة والقضية الفلسطينية، يوضح أنها ببساطة: أرض فلسطين عربية مسلمة، جاءتها عصابات من المحتلين، ولا بد من تحريرها منهم، ومن غير فلسفات ولا “فذلكات” وتهويمات لفظية وتاريخية، وبأي ثمن، لأن الأمور لن تؤول لأسوأ مما يراه أهل غزة هذه الأيام. وحتى إن آلت لما هو أسوأ، فمرحباً بالاستشهاد، إن كان المقابل هو العيش بذلّ وعار واستسلام.
إسرائيل هي من طرق الباب، لا بل هي من حطّمه وهشّمه، فلا بد من أن تلقى الجواب المؤجل منذ ستين عاماً، بذرائع واهية، ما هي إلا عين “الخيانة”، كما قال أبو إياد.