زكريا النوايسة
على أبواب غزة أخلع وقاري ،وأوقّعُ في دفترها بنشيجي.
على أبواب غزة ألملمُ أشلاء نفسي وبؤسَ أحزاني .
آتيكِ يا غزة لأتوضأ بطهرِ التراب المعجون بدم طفولتك من أوضاري.
وعند مينائكِ المكلوم أبحث عن أحلام الصيادين ،وعن بقايا ضحكة بريئة لصبية صدَّقت ذات يوم أن البحر لا ينحاز ضدها.
على أبواب الألم الغزّي انسلخُ من ذاتي، واهرب من وجهي لأنني لم أُجدْ أبجدية الدم ولا كان في صبيحة يوم أحمر خِضابي.
على أبواب غزة أعلنتُ أنني لستُ إلا هباء استوطنَ في طين وتلفّعَ بشالِ الخوف المزمن.
على أبواب غزة كان وقعُ الزمن ثقيلا ، فالشمسُ مرتبكة والقمر بابتسامة شاحبة يبحث عن عشاق كانوا ذات يوم يناجونه .
في غزة وعلى أبوابها ليس سوى الدم واللحم الطري وأُمّ وهي تلملم صغيرها المتناثر تقرأ عليه سورةَ الصبرِ وتغسله بأحزانها.
*****
وقفَ ونظر إلي ثم استدارْ… وكمن استدرك شيئاً مُهما فرماني بسؤاله من أنتْ؟
تلعثمت وعاندتني اللغة، فقلت: أنا، أنا…
صوَّبَ نظره في وجهي ثم ابتسم وقال : نعم أنت ، ألست من طرق الباب، قلتُ : نعم أنا الطارق وقد جئتُ أبحثُ عن دحنونة غزّية نبتتْ من دم شهيد ، ورواؤها من دمع أُمّ ثكلى، لأغرسها في حقلنا المجدبْ .
بيده الصغيرة جَذبني وحملني على جناحيّ طُهره وأوصدَ البابَ في وجه الريح ، وقال : هذه غزة ، أنظر هذا الركام الدماء ،الشِواء البشري ،نهر الدموع …..،هذه غزة.
وعاد من جديد يسألني : من أنت ؟ أربكني سؤاله ولكنني لملمتُ نفسي وقلت : أنا- يا سيدي -لا شيء ، أنا مجرد رقم في سجلات من صاغوا معادلتي ، أنا طينٌ يبحثُ عن دحنون الشهادة ليبعثَ فيَّ بعض حياة ، أنا ياسيدي مواطنٌ بلا وطن بلا زمن بلا جغرافيا ، أنا يا طفل غزة الرائع رجلٌ عشعشتْ في قلبه الهزيمة ، فأتيتُ لتمسحَ على روحي بيدكَ الرحيمة.
*****
كانوا خمسة ..ستة ..سبعة ….
حمل أولهم وسامهُ الأحمر فعلَّقه فوق اللوح الصغير .
جاء الثاني فغمس إصبعه الطري بالدم وكتب غـ.. ـز..ة
ووقف ثالثهم وقال : أنا كنت ذات صباح أبحث عن طبشورة لأكتب بها درسي ، فما وجدتها لأن أصابعي ضاعتْ مني عندما تغشَّانا الطوفانُ الأحمر، ولكنني لن أجزعْ فقد نذرتُ وأنا أنظر في عيون أمي المسجّاة أنني سأكتبُ ذات يوم على هذا اللوح اسم وطني.
وجثا رابعهم عند دُرْجِه وفتح كتاباً ناله رشاشٌ من دم فقال:أُقسمُ إنني سأكتب فلسطين على جبيني، حتى لا تغتالني المنافي وليشدَّني إليها كلما راودتني نفسي حنيني.
وجاء خامسهم وسادسهم وسابعهم… فكتبوا بطبشورة لا تعرف إلا اللون الأحمر ، من تحت الرماد والركام ، من حقول الموت ، من ليلكِ العابس يا غزة إنهضي وكوني.