جلال / عقاب يحيى
كتبت لي صديقة فلسطينية معلّقة على مقال :
(( نحن ضحايا مثلك يا غزة..فعذراً لتخاذلنا ..)) تقول، ما موجزه، أنها تأثّرت كثيراً بالمقال، لكنها تعقّب بملاحظتين : أنه حزين، وأنني أقسو على شعبنا…
كتبت لها بعض الأسطر شارحاً، خاصة أمام تهاطل الملاحظات والاتهامات على حركة حماس، وبأنها مجرد بيدق، أو مأمور ينفذ أوامر إيرانية وسورية، بأنني،مثل ملايين أبناء هذه الأمة، وغيرهم من شرفاء وأحرار العالم، وأمام منظر الجريمة، الإبادة، المحرقة . صور قتل الطفولة، وأشلاء أبناء شعبي، ولوحة الموت، والأوصال المقطّعة، والوجوه المشوهة بفعل الأسلحة المحرّمة، والدمار، والخراب، والجوهر الصهيوني الحاقد، الكحلي..وهذا الصمود الأسطوري، وفعل المقاومة النادر في ظل ميزان قوى مختلّ تماماً، وثبات الشعب ومعاناته، وتضحياته الخارقة .. لا أهتمّ بأمور أخرى تراود عقلي دوماً، وتطرح أسئلة كبيرة عنّا . عن حسن تقديرنا . عن حساباتنا للعدو، والذات، والمرحلة، والزمان، والمكان، والعرب العاربة والمستعربة، والجوار، والعالم، وهذا العدو وما يريده كل مرة، والنتائج وتعاملنا معها، والماضي ومبلغ الاستفادة منه، والشرخ، بله الشروخ الفلسطينية المفتوحة ودورها ..
ـ نعم أسئلة كثيرة تعتمل داخلنا حول الذي يجري، والغد، ومصير، ومصبات هذا النهر المتدفق من الدماء والتضحيات العالية، الغالية، والخيارات المفروضة، والحشر في الزاوية ..
ـ ولهذا وغيره أنا حزين فعلاً …
حزين على الشهداء، والجرحى، والمعطوبين . على من قطعت أطرافهم، أو شوهت وجوههم، أو فقدوا بصرهم.على تلك الطفولة، واليفاعة التي ما عرفت غير الموت، وطعم الخوف، والجوع، والمرار .على دمنا الرخيص الذي لا يحرّك نقطة دم شريفة( إن بقيت) في جسد النظام العربي الكهل، المصاب بعاهات الترهل،وتصلب الشرايين،وفقدان المناعة الوطنية والقومية .
حزين فعلاً وتمر أمامي انتفاضة الأقصى المبارك. أتذكّر البطولة، والفداء، والشهادة في مخيّم جنين، تضحيات شعب مؤمن، جبار، وتخاذل وهروب كمشة المنعّمين، اللصوص، القمعيين، فأستعيد صورة الرمز، الشهيد أبو عمار في المقاطعة وقد ضيّقوا عليه الحصار، وحشروه في غرفة وبقايا مكان، وصرخته المدوّية على ضوء الشموع” يريدونني سجيناً أو طريداً..بل شهيداً.. شهيداً.. شهيداً”، وكيف قاطعه الحكام العرب أشهراً، حتى من مكالمة هاتفية.. لأنه، ورغم مجاملاته الكبيرة لهم، والتي كان ينتقد عليها، لم يكن كما يريدون( متسولاً، متوسلاً، مفرطاً) فساهموا في اغتياله، كما ساهموا في اغتيال انتفاضة الأقصى، ومنع انتشار فعلها في حدودهم القطرية، ومحابسهم، ومصالحهم .
ـ أهالوا التراب على تضحيات الشعب .مضغوا دماء الشهداء، واستأسدوا على الشعوب : قمعاً، ولجماً، وتهميشاً، وإبعاداً، وتغريراً،وتبريراً، وما زالوا يمضغون دماءنا …
حزين فعلاً على العراق . عراق البطولة والنجدة والنخوة، وعراق المشاركة الفاعلة في جميع الحروب مع الكيان . العراق الذي حمى عروشهم حين كانت جحافل الإسرائيليين تطرق أبواب دمشق قرب سعسع، وخان أرنبة، وحين احتضن أكثر من ثلاثة ملايين مصري، وقدّم لهم نفطه بالمجان، وبأسعار رمزية، والكثير من وسائل الدعم .
عراق الحسين والعباس، والنقلة النوعية لأول قطر عربي يخترق ممنوعاتهم فينتج أسلحة متطورة، ويحقق القفزة بعقول عراقية وعربية .
عراق النجدات التي لم تتوقف للاستشهاديين وعوائلهم، رغم الحصار المريع .
ـ حزين على الدولة العراقية التي دمّرت، وملايين الشهداء، والمعطوبين، والمصابين بآثار اليورانيوم المنضّب، وبالأمراض المتنقلة، وهجرة الملايين بكل ذل الهجرة ومضايقات النظم، ومطاردة أبطال الجيش العراقي وعقوله العلمية من قبل فرق الموت والموساد .
ـ وحزين فعلاً والذكرى الثالثة لإعدام الرئيس العراقي، ورفاقه تمر قبل أيام بصمت النظام العربي المعهود …
 
; ****
; ****
حزين فعلاً على حال الأمة، وهذا النظام العربي الذي يثير الشفقة، والتفكه أكثر مما يثير الغيظ والحنق، والانفجار .
حزين لأن أمة بعمق وثروات وموقع هائل، وعقول علمية، وفي جميع الاختصاصات غائبة، أو مغيّبة تماماَ من الفعل، والتاريخ، وحتى الجغرافيا. أمة تحكمها طغم أقرب إلى المافيا، ومع ذلك تستكين، أو هي في موقع اللاحول واللاقوة، وكأنه قدرها أن تبقى مقهورة، مستلبة، فاقدة للمبادرة، وقدرة الدفاع عن أبنائها،وعن شرفها، وحياضها،مما يجعلنا حالة استثناء في العالم، ومثار تفكه، وسخرية، واندهاش .
ـ الحزن يمتدّ إلى من ما زال يأمل خيراً بالنظام العربي، فيطالبه بعقد قمة، أو بإنقاذ غزّة، أو بشيء من الانتخاء، والتأثر بمنظر الأشلاء، والأوصال المقطعة، والجماجم المهروسة، والعيون والوجوه المحروقة بالفسفور الأبيض وغيره، فيروح يخاطبهم بأسماء ليسوا بمستواها( قادة الأمة)، أو|( زعماءها) لأنهم لم يحترموا حتى الألقاب الشكلية التي صنعوها لأنفسهم، فلم يثبتوا يوماً أنهم قادة، وليسوا بالتأكيد زعماء، خصوصاً وأن ما من أحد فيهم اختاره الشعب بانتخابات حرة، وجميعهم مفروض بقوة التوريث، والعسكر، والأجهزة القمعية، وضعف البدائل .
ـ الحزن يمتدّ ويتموضع أمام بعض المواقف الانفعالية، التي أقل ما يمكن وصفها بالدروشة السياسية، أو الجهل بفهم خصائص وجوهر الأنظمة، ما لم نقل بالتناقض، أو التذبذب في النظرة، والتحليل، والموقف .
إذ، وبكل موضوعية، من هو المسؤول عن الحال الذي نحن فيه ؟، من الذي يطلق يد “إسرائيل” لتقوم بجرائمها دون حساب لأحد من هذه النظم الطويلة العريضة؟..من الذي همّش الشعب وأبعده عن الحد الأدنى من المشاركة، وعن تقديم المطلوب ؟؟..من ..؟؟..ومن..؟؟..
والأكيد أن السبب ليس في الأعداء الخارجيين وحسب، بل وأساساً، وإنما في القابضين على مقدرات الأمة ..
إن حساب المراهنات الخاطئة يعيدنا مرة أخرى إلى جوهر أزمات المعارضات العربية، وأرجحاتها، ودوخانها العجزي، وكأن العقود الفصيحة لم تعلمها الكثير، وكأننا بحاجة إلى المزيد من البراهين لنكتشف أن “فاقد الشيء لا يعطيه”، وأن”خضّ الماء” لا ينتج شيئاً غير الجهد العبثي، وآثاره على البدن، والعقل، والآخر ..
ـ نعم حزين فعلاً حتى لمنظر الجماهير المحقونة، العفوية منها التي تكاد تنفجر غيظاً وحقداً على العدو، بما فيها تلك المليونية، وأكثر، والمعلّبة والمرسّمة ..
ـ الحزن متشعب هنا، فهذه الجماهير العفوية، الطيّبة، المستعدة للعطاء، المتشوّقة للت سجينة فعلاً . سجينة الاستبداد المعمم، وسجينة قيوده العاتية، المانعة، وسجينة التهميش، والإبعاد، والاستخدام . وسجينة اليأس من الفعل اللازم اللازب، كما أنها سجينة الافتقار إلى مؤسسات وبرامج وأحزاب تقود، وتمنهج، وتمرحل، وتؤمن الاستمرارية والتفعيل ..
ـ ولأن شعوبنا مغيّبة طوال الأعوام، إلا في المناسبات المقننة، وانفلات المألوف على المألوف، صارت الظاهرة الصوتية توصيفاً لنا، وبتنا أمة الانفعال دون فعل، أمة الاندفاع بلا خطة، وهدف، لذلك سرعان ما تتلاشى تلك الهبّات، ولذلك، أيضاً، يسهل على النظام الرسمي تنفيسها وابتلاعها، وحتى هضمها بانتظار مناسبة أخرى، بينما تدفع فلسطين، والأمة الأثمان الباهظة كل مرة دون أن تقدر على تحقيق التراكم، والانطلاق منها في معالجة مشكلاتها وأزماتها، وعوامل ضعفها وهزائمها .
ـ حزين فعلاً على حالنا، حال النخب، والأحزاب المعارضة وشبه المعارضة، والنصف، والربع والأشباه، ووصف الحزن هنا قاصر أمام العجز الذي يؤدي إلى التخاذل .
العجز عجزنا، وهو حقيقة موضوعية، بغض النظر عن كل الأسباب، والتبريرات، لأننا، وكما هو مفروض، نتنطّع كي نكون البديل، بواقع نحن دونه. وهنا لا أقصد حجمنا فقط في معادلة ميزان القوى، ولا أثر الضربات، والسجون، والتصفيات، والملاحقة، والتهجير، ومصادرة الحريات الديمقراطية بأبسط صورها وحسب، إذ، وعلى أهمية تلك العوامل وغيرها، في أزمة النخب والمعارضة، أو المعارضات، وإنما بنية الوعي فينا، مدى فهمنا للمرحلة، والاختلاف، والرأي الآخر، والعمل المشترك ومراوحه، وقبول النقد . ومدى العصبوية والاستبداد والشمولية والأحادية فينا . ومدى القدرة على التطور والتطوير، بعيداً عن المرجحة التماوجية، والانتهازية الضيقة، وحسابات المصالح الذاتية .
نعم عجزنا هو المسؤول عن تخاذلنا، وهو الذي يقود إلى استنقاع الأوضاع والنخب، وهذا الفيض الفائض من الذاتية، والكتابات الخلّبية، والاته
امات الفاحشة .
امات الفاحشة .
حزين فعلاً للانقسام الفلسطيني الذي تزداد شقته،خاصة بين جناحي فلسطين الرئيسين، والذي يهدد استمراره بسقوط فلسطين بالضربة القاضية .
الحزن أكبر من إلقاء المسؤولية على حماس و(انقلابها)، ودورها في تعميق الشرخ، وتأجيج الخلاف، وتوزيع الاتهامات القاسية..إلى طبيعة حساباتها، ومراهناتها، واستناداتها وهي تبدو وكأنها تستعد لفعل العدو المبيّت. ولأني أجهل، حتى الآن، حقيقة موقفها، وطبيعة الخيارات التي كانت مطروحة عليها، ومدى تلازم، أو تقاطع موقفها مع برامج أخرى(إيرانية بالتحديد)..فإن استمرار الانقسام الفلسطيني،وتمحوره،ولو مظهرياً حول خطين متعارضين، متناقضين،وتلك التصريحات الغرائبية لبعض مسؤولي السلطة الفلسطينية، ونكئ الجراح وسط المذبحة، وملحمة الصمود، وهذا التصنيف المريب، المشوّه للتاريخ، والتضحيات، ونهر الدماء ..يجعلنا نخاف فعلاً مآل الأمور، وقد أفصح الاستبداد، متعدد الأشكال، عن فصاحته لدى جميع الفرقاء، في حين كانت الآمال كبيرة في أن يوحد الدم الأخوة، كما اتحدوا في ميدان المواجهة، وكما توحدهم قاذفات العدوان، وأسلحته المحرّمة، وجريمته المعممة ..
نعم، حزين فعلاً ما لم تمتلك هذه الأمة مشروعها الحضاري المنفتح على العصر . المشروع الذي يضعها في موقع الفعل، وليس رد الفعل . مشروع النهوض، والتحرر، والحريات الديمقراطية، والتداول السلمي على السلطة .مشروع المواطنية المتساوية، المتكافئة الذي يقرّ التنوع والتعدد ويعترف بالآخر وحقوقه، وبالانتخابات الحرّة، النزيهة طريقاً لمشاركة الشعب، واختباراً للقوى والأحزاب .
المشروع القادر على انتزاع حقوق الأمة دون تقطع، وتضحيات مجانية، أو مهدورة ..
حزين فعلاً يا فلسطين أنك تحملين أعباءنا وحدك، وتقاتلين ، وتصمدين كما لم يقاتل ويصمد ويضحي أحد من أفرع هذه الأمة، بل وفي العالم ..وعذري أنك ولاّدة، خصبة معطاءة، وأنك الراية المشرعة، والمنارة، رغم الظلم والظلام، وليل العرب الطويل ..
حزين جداً يا فلسطين .. لكننا نعشقك، وسيعلمنا عشقك كيف ننتصر على ذواتنا وأعدائنا . نعم سنتعلم .. وأنت حادي الركب، وطليعة الأمة …