برهن الجزائريون مرة أخرى، حكومة وشعبا، صحافة وجماهير، أنهم أوفياء لوصية الزعيم الراحل هواري بومدين: نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة.. فقد هبت الجماهير عن بكرة أبيها للتظاهر في الشوارع، فاضطرت السلطة لأول مرة منذ 2001 إلى الترخيص للمسيرات، ثم انتقلت فيما بعد لتأطيرها خوفا من ارتدادها ضد النظام..
ومازال الجسر الجوي بين مطار الجزائر العاصمة ومطار العريش المصري يمد المستضعفين في غزة بما جادت به كرائم أموال الجزائريين، فيما يتواصل التجنيد الإعلامي القوي منحازا دون أي تردد للمقاومة الفلسطينية الباسلة، ضد اليهود الغاصبين المعتدين، وضد كل عملائهم الأعراب المتخاذلين..
تبرز هذه القراءة العاجلة في أبرز ما يكتبه الصحافيون الجزائريون عمق التصاقهم بالهم الفلسطيني، وقصفهم دون تردد، على الأقل إعلاميا، لكل أعداء عزة..
رصاصات صحافية ضد الصهاينة وأعرابهم الخونة
إذ كتب الزميل عبد الناصر بن عيسى في افتتاحية الشروق اليومي، أكبر جريدة جزائرية، أنه لم يحدث في التاريخ وأن كانت إسرائيل منبوذة في مختلف دول العالم كما هو حاصل اليوم، فقد تسللت صور جثث الأطفال إلى قلوب الناس وزلزلت آخر طابق من بناية السلام التي كانت إسرائيل توهم العالم بأنها تشيدها، وصار حلم الناس من ماليزيا إلى مراكش هو زوال هذه الدولة بعد ستين عاما من “الهولوكوستات”..
لكن المشكلة، يضيف نفس الكاتب، أننا صرنا أمة بلا ذاكرة، فغزة أنستنا مجازر قانا بجنوب لبنان، وكانت قانا قد أنستنا مجازر غزة الأولى، ومحت المجازر الأخيرة من ذاكرتنا صور العائلات المذبوحة في صبرا وشتيلا ودير ياسين وصيدا وما حدث في العدوان الثلاثي وفي حرب الستة أيام عندما قتلت إسرائيل عشرين ألف مصري وستة آلاف أردني، والأكيد أن إسرائيل سترتكب مجازر أخرى تنسينا مشاهد الألم والرعب التي رسمتها في غزة.
فرغم أن الذكرى تنفع المؤمنين والقرآن مليء بقصص الأولين فإن الأمة صارت بدون ذاكرة ولا تاريخ، لأجل ذلك لم تهتم إطلاقا بتدريس هذه الأحداث في مقرراتها التعليمية رغم أنه لا يوجد أصدق من هذه المجازر المدونة بالصورة والصوت والدم عكس اسرائيل التي لاتنسى ما تعرضت له رغم أنه هيّن، وحوّلت من الهولوكوست قضية عالمية في غياب الأدلة القاطعة على حدوثها.. ومازالت لحد الآن تتابع ألمانيا قضائيا وتطالب بتعويضات سياسية وعاطفية ومالية وعتادية ليس من الألمان فقط وإنما من كل دول العالم.
ضربونا بالقنابل العنقودية فنسينا وضربونا بالقنابل الفراغية فنسينا وضربونا بالقنابل الارتجاجية فنسينا، والآن يضربوننا بالقنابل الفوسفورية وسننسى، وقد يضربوننا بالقنابل النووية وننسى، لأننا أمة فقدت ذاكرتها.. بل إننا أمة بلهاء لا تعلم ما يحدث لها الآن فكيف لها أن تعلم ما حدث لها سابقا وما سيحدث لها لاحقا.
تفاؤل إعلامي ينصر عسكري للمقاومة
أما الزميل المخضرم حبيب راشدين، الطي لم يخف يوما انحيازه للمقاومة، فقد أمطر كتاب المارينز العملاء الإعلاميين لإسرائيل بقراءة إيجابية ممتازة لما يحدث في غزة، معتبرا أن ألف شهيد قد تكفي لإعادة فتح جبهة الصراع الجنوبية مع إسرائيل، وأن المقاومات تنتزع إدارة الصراع من الأنظمة..
قرابة الألف شهيد، مع فداحة الحصيلة، ليس بالثمن الباهظ إذا ما نظرنا إلى نتائج هذه الحرب التي سقطت فيها جميع رهانات الكيان الصهيوني والطرف العربي المعتدل، ومنها أننا بصدد فتح جبهة جديدة على جنوب الكيان تعوض جبهة مصر المعطلة، بعد أن فتحت المقاومة في لبنان جبهة في الشمال في انتظار تنشيط جبهة شرقية في الضفة تعيد الكيان الصهيوني إلى مربع الصفر، وتفرغ مسارات التسوية، وتدخله في صراع جديد تقوده هذه المرة مقاومات الشعوب.
مع دخول الحرب الإسرائيلية على غزة أسبوعها الثالث، تقارب حصيلة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني ألف شهيد وأربعة آلاف جريح، نصفهم من الأطفال والرضع والنساء والشيوخ، في واحدة من أبشع جرائم الحرب التي يتعرض لها العالم العربي والإسلامي، فاقت في بشاعتها ما رأيناه في العراق ولبنان، بالنظر إلى صغر الرقعة التي يقع عليها العدوان، وكثافة السكان العالية، وامتناع سبل الهرب والنجاة، وكأننا نشهد عملية قتل بدم بارد داخل أسوار سجن أو محتشد نازي.
لن تكون الكلمات أبلغ من الصور الحية التي أحاطت بنا على مدار ساعات اليوم؛ صور لم نر لها نظيرا من قبل، وقد لا نرى لها مثيلا من بعد، ومع ذلك لم تحرك ساكنا لهذه المدنية الغربية الفاشية، ولا استطاعت أن تغير قيد أنملة من موقف الحكومات والدول العربية الشريكة في القتل مع الصهاينة.
من شع
ب صامد في وجه العدوان…
ب صامد في وجه العدوان…
دعونا نقرر أن الحصيلة مع فداحتها، لم تثن عزيمة مقاومة الغزّاويين، فلم نسجل على مدار أسبوعين من بداية الحرب على غزة صوتا واحدا لشاب أو كهل، ولا لشيخ أو امرأة من أهالي غزة يدين المقاومة، أو يطالبها بالاستسلام ووقف المقاومة. فكما أن الحصار الذي لم يشهده أي شعب من قبل لم يؤلّب سكان غزة على قوى المقاومة، فإن القصف المتواصل بجميع أنواع الذخائر والأسلحة المحرمة دوليا، لم يمنح الصهاينة وحلفاءهم في سلطة عباس ودول الاعتدال العربي راية بيضاء واحدة، كنا على استعداد أن نتفهم دوافعها، ونسوغ لها الأعذار، وكأن الشعب الفلسطيني في غزة أراد إلاّ أن يقيم علينا الحجة جميعا حكاما وشعوبا بهذا الصبر وهذه المجالدة الأسطورية والاحتساب.
إلى أنظمة صامدة في وجه الشعوب
ما نراه اليوم من تآمر وخيانة فاق بكثير ما رأيناه في العدوان الأمريكي على العراق، والعدوان الأمريكي الصهيوني على لبنان، ولم نرَ، كما يدعي البعض، نظاما عربيا عاجزا، ولا حكومات مستضعفة لا تملك من أمرها شيئا. ما رأيناه هو استبسال من الحكومات العربية في حماية السفارات الصهيونية بكفاءة بوليسية عالية، واستنفار لمقدرات الدول العربية السياسية والأمنية والإعلامية لدعم العدوان وتمكينه من تحقيق النصر على المقاومة الذي فاته في لبنان.
وللأمانة فقد فاجأني هذا القدر من الصمود والتصدي عند أنظمة مصر والسعودية والأردن في مواجهة الحراك الشعبي، والحيوية والكفاءة التي أبدتها الجامعة العربية في إحباط محاولة الدعوة لقمة عربية، وأخيرا البراعة التي كانت للوفد العربي في نيويورك في تفريغ القرار الهزيل لوزراء الخارجية العرب، واغتنام أول فرصة لاستبداله بمشروع قرار بريطاني يريد أن ينتزع من المقاومة ثمار أسبوعين من المقاومة والاستبسال.
سوف نقع في خطأ آخر بمواصلة الحديث عن تواطؤ عربي، لأن ما رأيناه هو مشاركة مباشرة في العدوان، ليس استمرار النظام المصري في غلق معبر رفح أمام تدفق المساعدات سوى الجزء البارز منه.
فقد كشفت الصحافة الصهيونية ما نقله ساركوزي للقادة الصهاينة عن الرئيس المصري الذي دعاهم إلى حرمان حماس من تحقيق النصر، وحتى مع صدور التكذيب المحتشم، فإن النشاط الذي بذله النظام المصري منذ بداية العدوان، بتعطيل صدور أي موقف عربي، ثم الإسراع إلى تبني مبادرة إسرائيلية فرنسية عشية انعقاد مجلس الأمن ساعد في إضعاف الموقف العربي الضعيف أصلا، يشي بأكثر مما نقلته الصحف الصهيونية.
جرائم إرهاب الدول للشعوب
إغلاق معبر رفح أمام شعب يذبح، يضع النظام المصري جنبا إلى جنب مع مجرمي الحرب الصهاينة، بموجب اتفاقيات جنيف التي تلزم الدول بفتح حدودها أمام المدنيين الفارين من ويلات الحرب، وتلزم الدول الجارة باستقبال الضحايا والجرحى حتى من سكان الدولة المعتدية، فكيف إذا كان الضحايا ينتمون لشعب شقيق، ومن جزء كان تحت الوصاية المصرية حين سقط تحت الاحتلال. وينبغي للجهات التي تتهيأ لرفع دعاوى ضد مجرمي الحرب من القادة الصهاينة، أن يرفعوا دعوات مماثلة ضد الحكومة المصرية، وضد الرئيس المصري تحديدا، نأمل أن يتولاّها أشقاؤنا المصريون أنفسهم، بل يكون من واجب الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج أن ترفع دعاوى مماثلة ضد زعمائهم وقادتهم، بتهمة تكون في الحد الأدنى: التقاعس عن نجدة شعب يتعرض للإبادة، وهي تهمٌ تطال بالمثل الدول الأعضاء الدائمة في مجلس الأمن، ودول الاتحاد الأوروبي التي كانت لها مسؤولية واضحة في تثبيت الحصار على غزة والذي مهد لهذه الحرب العدوانية، تماما كما مهد الحصار على العراق للغزو الأمريكي، وقتل مليون ونصف مليون عراقي، وتهجير أربعة ملايين عراقي.
استعادة الشعوب القدرة على الردع
الهبّة الشعبية العربية التي تحركت هذه المرة بسرعة، ليست كافية، وكان ينبغي لها أن تنتقل إلى خيارات أخرى غير التظاهر والهتاف لغزة وشق الصدور والنحيب على ضحايا العدوان، بعد الرفض الصهيوني لقرار مجلس الأمن مع ضعفه. وهي اليوم ليست فقط مطالبة بحراك آخر أكثر فاعلية، دفاعا عن شعب غزة وهو يذبح، بل دفاعا عن نفسها إن كانت ترى ما نرى من أهداف هذه الحرب، التي لا تريد فقط تصفية القضية الفلسطينية، بل تريد حسم المعركة مع حق الشعوب في المقاومة، واستعادة قدرة الردع التي فقدها الصهاينة في لبنان، وتفقدها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان.
وعليها أن تعلم أن ما يجري ليست مؤامرة، بل مسار منهجي تشترك فيه الحكومات العربية بمستويات متفاوتة، ومعها جيش من المثقفين ورجال الدين »المار ينز«، وآلة إعلامية عربية تدير حربا نفسية قاتلة على الشارع العربي، وتسعى إلى تثبيط عزيمة المقاومين في غزة.
فباستثناء قنوات عربية تعد على أصابع اليد، فإن أغلبية القنوات العربية قد انقسمت إلى فريقين: فريق حكومي وخاص واص
ل برامجه العادية، وطهر نشراته الإخبارية من أية إشارة إلى المذبحة، وفريق فتح شاشاته لجيش مدرب من المثقفين والإعلاميين والساسة ورجال الدين وخبراء عسكريين يقودون بالنيابة عن إسرائيل حربا إعلامية ونفسية لم نشهدها حتى في العدوان على لبنان.
ل برامجه العادية، وطهر نشراته الإخبارية من أية إشارة إلى المذبحة، وفريق فتح شاشاته لجيش مدرب من المثقفين والإعلاميين والساسة ورجال الدين وخبراء عسكريين يقودون بالنيابة عن إسرائيل حربا إعلامية ونفسية لم نشهدها حتى في العدوان على لبنان.
الشعوب العربية التي تئنّ لصور الضحايا، وتمسي على حصيلة من الشهداء وتصبح على أخرى، مطالبة اليوم بالاهتمام أكثر بإحصاء وتدبر حصيلة ما فعلته أنظمتنا وحكامنا عبر خيار السلم والتسوية بالشعوب والنخب.
المعركة الأخيرة للطابور الخامس
المأساة الحقيقية ليست في غزة، فهؤلاء شهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وقد كتب لهم الله هذا الشرف، وسوف يكتب لهم التاريخ، أن ثلة قليلة من خيرة أبناء هذه الأمة، قد أنقذت الأمة بأكملها، وأعادت إحياء جذوة المقاومة، وأوصلت رسالة غير مسبوقة تقول إن زمن نعي الأمة العربية لن يحينَ بعد، لكن المأساة هي في هذا الطابور الخامس من الأحياء ـ الأموات من النخب، من السياسيين والإعلاميين والمثقفين وفقهاء السلطة الذين يفعلون بالأمة ما لا تقوى عليه، لا الآلة الصهيونية مع كفاءتها، ولا الآلة الإعلامية الغربية مع هيمنتها ومقدراتها.
ولولا وجود قناة الجزيرة المجاهدة حقا، وهذه الفئة من المثقفين والإعلاميين والمفكرين، وثلة من العلماء المسلمين الناجية من سياسة تهويد العقل العربي، لكانت المقاومة الباسلة قد خسرت المعركة في الأيام الأولى، ولكانت معنويات الشعوب العربية قد انهارت كما حصل غداة هزيمة 6 جوان، وعدوان 1991 على العراق.
إعادة تشكيل جبهة الصمود والتصدي
يبقى بعد هذا أن نستشرف آفاق هذه الحرب التي تتجاوز العدوان على غزة المحاصرة، وتتجاوز حتى القضية الفلسطينية، وقد استشرفنا منذ أسبوع بعض أهم تداعياتها، ولم يكن قد اتضح بعد مقدار المقاومة على التصدي، ومقدار شعب غزة على الصمود، ولم يكن قد اتضح بالقدر الكافي مقدار مشاركة النظام العربي الرسمي في العدوان والجريمة.
لن نركن في هذا الاستشراف، لا للبيانات الصادرة عن الفصائل المقاومة، ولا إلى خطاب خالد مشعل الأخير، يكفينا أن نلاحظ على المستوى العسكري أنه منذ بداية الاجتياح البري، ودخول القوات البرية الإسرائيلية في اشتباكات مباشرة مع المقاومة، لم يتحقق بعدها أي تطوير للعمليات البرية التي ظلت منذ الاثنين الماضي تراوح في مكانها، وبات من المؤكد أن إسرائيل لم تعد قادرة على تطوير الاجتياح البري، ودخول مدن غزة في ما سمي بالمرحلة الثالثة.
وهذا يعني أن إسرائيل ليس باستطاعتها تحقيق أي هدف من أهدافها العسكرية المعلنة عند بداية الحرب، وأننا قد دخلنا فعليا مرحلة البحث عن مخارج سياسية تسعى كثير من العواصم الغربية والعربية إلى توفيرها لإسرائيل.
تداعيات انتهاء الحرب بتسوية لم يسبقها تغيير للواقع في غزة، سوف تتعدى الوضع في غزة، إلى بداية رسم خارطة سياسية وعسكرية جديدة في كامل المنطقة. فعلى الصعيد السياسي، يكون إخفاق إسرائيل في القضاء على المقاومة وحركة حماس تحديدا ضربة قاصمة لمسار التسوية، ويملي على القوى التي كانت تديره في الحد الأدنى، البحث عن سياقات جديدة ومقاربة تختلف عما شاهدناه منذ بداية مسار أوسلو.
المقاومات تنتزع إدارة الجبهات من الأنظمة
على المستوى العسكري يفترض على إسرائيل وعلى الدول العربية التي أخرجت نفسها من الصراع العربي، أن تسجل الحقيقة العسكرية والسياسية الجديدة على الأرض، وهي أن جبهات المواجهة مع إسرائيل التي أغلقت بعد معاهدة كامب دافيد: جبهات مصر وسورية والأردنية، قد استبدلت بفتح جبهات جديدة تتحكم فيها المقاومة ليس للدول فيها نصيب.
فالجبهة السورية استعيض عنها بجبهة جنوب لبنان التي يتحكم فيها حزب الله، ويستطيع فتحها أو تنشيطها متى شاء، وعلى الأقل الضغط بها على إسرائيل. ونرى بعد هذه الحرب فتح وتثبيت جبهة جنوب الكيان الصهيوني انطلاقا من غزة، تكون بإمرة حماس والفصائل المقاومة. ولن يمضيَ وقت طويل حتى نرى في الضفة الغربية فتح جبهة مواجهة شرقي الكيان الصهيوني.
هذا ما كانت تخشاه إسرائيل والأنظمة العربية المعتدلة، حيث نسجل انتقال إدارة الصراع العربي الإسرائيلي من أيدي الأنظمة إلى أيدي الشعوب ومقاوماتها، وهي نقلة نوعية استراتيجية لها من التداعيات ما لا يستشرف كله اليوم، جعلت من الحرب الدائرة في غزة معركة حاسمة، حُقَّ لخالد مشعل أن يسميها الحرب السابعة، لأنها حرب قلّبت موازين القوة، وأعادت الكيان الصهيوني إلى مربع الصفر في مواجهة مفتوحة مع الشعوب ومقاوماتها، لن تسعفه فيها تحالفاته الدولية الغربية والعربية التي ليس لها تأثير على قوى المقاومة.