الدكتور هشام رزوق
ستة عشر يوما من الصمود الأسطوري لشعبنا العربي ومقاومته الباسلة في قطاع غزة أمام آلة الحرب العمياء الطاحنة التي يستخدمها العدو الصهيوني بكل وحشية، صمود أذهل الأعداء قبل الأصدقاء، صمود أفشل مخططات العدو ومخططات من شجعوه وأيدوه، مخططات من كانوا ينتظرون لحظة إعلان الاستسلام لهذا العدو الهمجي من طرف قادة المقاومة في غزة الحبيبة ليأتوا على ظهر الدبابات الصهيونية ويدخلوا قطاع غزة دخول من سبقهم من عملاء أمريكا في العراق بعد أن احتلته القوات الأمريكية الغازية.
وكانت هبّة الشارع العربي والإسلامي والعالمي أمام هول المجازر المرتكبة بحق الأطفال والنساء والشيوخ، وأمام مناظر الدمار والخراب للبنية التحتية المدنية وبيوت الله والجامعات والمؤسسات الثقافية وحتى لموظفي وكالة غوث اللاجئين والطواقم الطبية وسيارات الإسعاف.
هبة الشارع العربي هذه المرة تختلف عن غيرها من المرات السابقة، تختلف نوعيا وكميا لأنها أتت في ظروف مختلفة عن سابقاتها.
فهي تأتي في وقت أثبتت فيه المقاومة العراقية الباسلة أنها الأقوى، وأنها هزمت العدوان الأمريكي وأن قضية انسحابه من العراق هي قضية وقت لا أكثر.
وتأتي بعد أن رأى العالم كله تلك الوقفة الأسطورية للشهيد صدام حسين أمام حفنة من العملاء الحاقدين، وكيف واجه الشهادة بقامته الشامخة وبكل رجولة وإيمان، تلك الصورة التي أصبحت رمزا ومثالا للبطولة والاستعداد لمواجهة الموت، للجيل الحالي وللأجيال القادمة.
وتأتي بعد أن انتصرت المقاومة اللبنانية وهزمت الجيش الصهيوني في حربه التي شنها على لبنان صيف 2006، حيث أرّخت تلك الحرب لمفهوم جديد في المقاومة والصمود والانتصار، مفهوم أعاد للمقاومة بمفهومها الواسع، الاعتبار والاحترام والمصداقية أمام ذلك الطوفان من دعاوي الاستسلام والانهزامية أمام العدو الصهيوني، ذلك الطوفان من التشكيك بالقدرة على مجابهة العدوان الذي كان يريد من الجميع أن يرفعوا الراية البيضاء أمامه.
ثم تأتي المقاومة بكل فصائلها في قطاع غزة لتضرب أروع الأمثلة في الصمود والاستبسال وقوة الإرادة، والقدرة على مجابهة العدو، لتثبت للعالم أن المقاومة ممكنة لمن يطلب الشهادة ولا يخاف الموت، وأن هناك طريقا أخرى غير طريق الانبطاح أمام العدو لتحقيق الأهداف واستعادة الحقوق.
ولهذا فإن أمام الجماهير العربية الآن نماذج غير التي تعود على رؤيتها في القصور وقاعات الاجتماعات وأروقة الفنادق، نماذج من الناس لا يخافون الموت ولا يهابونه، أناس حملوا أرواحهم على أكفهم من أجل حرية شعبهم وأمتهم.
إن هذا التراكم من النماذج البطولية سوف يكون له ما بعده، وسوف نرى ميلاد جيل جديد مقاوم مستعد للتضحية دفاعا عن أرضه وشعبه وأمته ومبادئه.
لقد أثبتت هبّة الشارع العربي انتصارا للمقاومة الفلسطينية في غزة، أن الشعب في واد والأنظمة التي تحكمه في واد آخر، وأن ما تنادي به الشعوب وتطلبه من أجل نصرة الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة شيء، وما تريده الأنظمة شيء آخر مناقض تماما.
في البلدان الديمقراطية، يستمع الحكام والمسؤولون إلى نبض الشارع ، يتناغمون معه، يغيرون سياساتهم وتوجهاتهم لتقترب أكثر ما يكون من رغبات ومصالح الجماهير التي يحكمون باسمها.
إن مظاهرة واحدة مهما كان عدد المشاركين بها والشعارات التي ترفعها، تؤخذ بعين الاعتبار ويحسب لها ألف حساب في تلك البلدان، وقد تكون سببا في إسقاط حكومة وتغيير سياسة بكاملها، فجميع المسؤولين حريصون على نيل ثقة الشعب ورضاه.
أما في أنظمتنا العربية، فالقطيعة كاملة بين رأي الجماهير وبين سياسة الدولة، وما حدث خلال الأسبوعين الماضيين دليل ساطع على تلك القطيعة.
إن تلك الوضعية لا يمكن أن تستمر طويلا بين الأنظمة وجماهيرها التي بدأت تستعيد نوعا من الثقة بنفسها وأخذت تتجرأ لقول وفعل ما لم تكن تتجرأ عليه فيما مضى، خصوصا وأن الأنظمة ما زالت تصم آذانها وتغمض أعينها حتى لا ترى ولا تسمع ما يدور من حولها من متغيرات، وما زالت سائرة في طريق الخضوع للإملاءات الخارجية المتناقضة مع مصلحة شعبها وأمتها.
لقد أعادت المقاومة الفلسطينية في غزة لقضية فلسطين موقعها الطبيعي والصحيح في قلب وعقل كل عربي، كونها قضية العرب الأولى، قضية وطن مسلوب محتل، وشعب مشرد مظلوم، وأن المقاومة حق طبيعي مشروع لا بد منه لدحر العدوان
واستعادة الحقوق، وأن طريق الخضوع والاستسلام لا تؤدي إلا لمزيد من الذل ولن تحرر شبرا واحدا من الأرض.
واستعادة الحقوق، وأن طريق الخضوع والاستسلام لا تؤدي إلا لمزيد من الذل ولن تحرر شبرا واحدا من الأرض.
إن استمرت الأنظمة في صم آذانها لا تسمع نبض شارعها ونداءات شعبها تجاه كل قضاياه المحلية والقومية، فإنها ستجد نفسها، إن عاجلا أو آجلا، في مواجهة مباشرة وعنيفة مع هذا الشارع الذي لن يرحمها بعد أن همّشته وأذلته طويلا.
إن على الأنظمة أن تغير من سياساتها الحالية تجاه القضية الفلسطينية وتجاه المجازر الوحشية التي يتعرض لها أخوتنا في غزة قبل فوات الأوان، قبل أن يلفظها التاريخ وتلعنها الأجيال الحالية والقادمة إلى يوم الدين، وعلى كل القوى الوطنية والقومية والإسلامية المقاومة أن تكون مستعدة لتلعب دورها كاملا في قيادة المرحلة القادمة من النضال، مرحلة أعتقد أن إرهاصاتها بدأت تلوح في الأفق رغم كل دخان القنابل الذي يغطي سماء غزة المجاهدة، وسماء أكثر من قطر عربي.
الدكتور هشام رزوق