علي الجفال
حركة حماس استنفدت كامل خزينها الاستغاثي قبل المحرقة التي أشعلتها إسرائيل في غزة بأكثر من شهرين، ولجأت إلى التهديد بفكّ شراكة التهدئة بعد أن أصبحت مجرد قيدٍ يكبّل فعلها المقاوم بوجه الحصار الذي كانت له آثار لا تختلف كثيراً عن آثار الحرب المباشرة، إلا في عدد الضحايا مقسَّماً على عدد الأيام، وهو أمرٌ لم يكن ثابتاً بعد قطع الجانب الإسرائيلي لإمدادات الوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء بالتزامن مع انخفاض درجات الحرارة، ناهيك عن أزمة الدواء والمستلزمات الطبية وعدم توفر الطعام وبالخصوص الخبز وحليب الأطفال.
حركةُ حماس استشعرت مخاطر الاستراتيجية الإسرائيلية المعتمدة، في شقّها الأوّل، على الحصار مستلهمةً الاستراتيجية ذاتها التي اعتمدتها الولايات المتحدة مع العراق بعد حرب الخليج الثانية، حيث اعتمدت بدورها في شقّها الأوّل على الحصار هادفةً إلى خفض منسوب الشعبية التي تمتع بها نظام الرئيس الراحل صدام حسين، إضافة إلى خلخلة البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تمهيداً للغزو، وهو الأمر الذي حقق نتائج ملموسة في ربيع عام 2003 حيث تمكّنت القوات الأمريكية من احتلال العراق، وهو ما يمثّل الشقّ الثاني من استراتيجية واشنطن التي شرَعتْ على الفور في تطبيق شقّها الثالث من خلال استهداف وحدة العراق شعباً وأرضاً وسماءً ومياهاً إقليمية، وبناءً على هذا الاستشعار قطعتْ دبلوماسية حماس الطريق على إسرائيل ومَنْ يقف خلفها، من خلال رفضها تجديد اتفاقية التهدئة التي لم تعد سوى شرعنة للحصار المفروض على غزة.
محرقة غزة، كما محرقة العراق، تمت بمباركة وتواطؤ ما يسمى بالعالم الحرّ، الذي يدّعي الآن أن صواريخ حماس على المدن الإسرائيلية هي سبب المحرقة، وكأنما الدبابات الفلسطينية تجوب شوارع تل أبيب على حدّ توصيف الصحفي البريطاني روبرت فيسك، تماماً مثلما انضم هذا العالم الحرّ إلى جوقة إدارة جورج بوش في تسويق أكاذيبها المتعلقة بخطورة أسلحة الدمار الشامل العراقية والعلاقة المزعومة بين العراق وتنظيم القاعدة، ومن ثم مشاركته إياها في إشعال محرقة العراق.
لقد أصبح العالم (الحرّ) مكشوفاً بنفاقه السياسي وتملّقه الرخيص لمحور واشنطن تل أبيب، ويبدو أن شعوب هذا العالم اكتشفت حجم نفاق ساستها قبل أن نكتشفه نحن العرب، لذلك اختارت السير على عكس تيارهم من خلال مسيرات الاحتجاج على محرقة غزة التي اجتاحت معظم المدن الغربية منددة بالعدوان الإسرائيلي الوحشي، الأمر الذي يؤشر بشكل واضح لتشكيل نمط جديد من الحراك الشعبي العالمي قريب بملامحه من الحراك الذي كان سائداً في ستينيات والنصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، والذي أفضى إلى إنصاف قضايا الشعوب المضطهدة في فيتنام وتشيلي وأنغولا ضدّ الهيمنة الإمبريالية كما كانت تُدعى آنذاك في الأدبيات السياسية، الأمر الذي يستوجب استثمار هذا الحراك عربياً من خلال تفعيل العلاقات الشعبية بين التنظيمات المهنية والتشكيلات القومية التقدمية العربية مع مختلف الشرائح المحبة للعدل والسلام في العالم، بهدف كشف المزيد من نفاق الأنظمة السياسية في العالم (الحرّ) الذي يفخر بانتماء إسرائيل إلى صفوفه، والذي أقام الدنيا من أجل تماثيل بوذا التي حطمتها حركة طالبان -وهو عمل مرفوض بكل المقاييس- إلا أنه لم يحرِّك ساكناً أمام حرق وتهديم مئات المساجد والحسينيات والكنائس في العراق على أيدي قوات الاحتلال الصهيو-أمريكي، ولم يحرِّك الآن ساكناً أمام استهداف الطائرات الإسرائيلية المفضوح للمساجد في غزة.
الأنظمة الحاكمة في ما يُسمّى بالعالم الحرّ شريكة إسرائيل في جريمة محرقة غزة، وستدفع مع إسرائيل ثمن حمّام الدم، كما كتب سيوماس ميلن في الغارديان الأسبوع الماضي.
*رئيس تحريرجريدة المدار