د. أحمد الصغير
الشاعر رفعت سلام واحد من الشعراء القلائل الذين عنوا عناية شديدة بكتابة النص الشعري الحداثي (قصيدة النثر)، وقد تجلى ذلك من خلال أعماله الشعرية المتعددة بدءاً من ديوانه الأول (إنها تومئ على) و (إشراقات رفعت سلّام)، و (وردة الفوضى الجميلة)، (إلى النهار الماضي)، و(كأنها نهاية الأرض)، وجاء أخيراً ديوانه (حجر يطفو على الماء)؛ ليكمل ما بدأه الشاعر رفعت سلام؛ ليصبح مشروعه الشعري واحداً متكاملاً، لا تستطيع أن تصل إلى تأويلاته أو دلالاته إلا من خلال قراءة المشروع الشعري لدى سلام كله؛ لأن كل عمل شعري لديه لا ينفصل عن سابقه، فاللاحق هو مكمل للسابق فقد كرَّس لنفسه بعداً رؤيوياً حول الشعر / أو فن كتابة النص الشعري الحداثي، واتخذ لنَفسِه خطاً مكتملاً يميزه عن أفراد جيله من السبعينات.
تمترج روح رفعت سلام بالمراوغة امتراجاً قوياً؛ لأن النص الشعري تكمُن فيه الدهشة والصدمة في آن واحد. والنص لديه أيضاً يحمل في طياته زلزلات شعرية مغايرة، مما يسبب قلقاً لدى المتلقي بأنواعه المختلفة، على الرغم من أن النص الشعري لدى سلام يحتفي بالمتلقي احتفاءً واسعاً، يجعله في مقدمة الشعراء الذين يجعلون من المتلقي بطلاً لأعمالهم دون تزييف أو مباشرة.
ومن هذه النصوص التي احتفت بالمتلقي نصه الشعري (حجر يطفو على الماء).
فقد جاء هذا الديوان في سبع وأربعين صفحة كأنه قصيدة واحدة. لا يستطيع القارئ أن يقرأ جزءاً دون جزءٍ؛ لأنه عمل متكامل يُقرأ في صورته الكلية، كما احتفى الشاعر أيضاً بالشكل الفني في إخراج الديوان، قد جاء الغِلاف بطريقة تدعو للعودة إلى النظر للأشياء في طريقتها الأولى؛ لأن الغلاف جاء من نوع الورق الكرتون المقوى. مكتفياً بوضع بعض الأيقونات الدالة على الديوان مثل: دار النشر واسم الشاعر وعنوان الديوان وبعض الرسوم التي تشير إلى عصور وحضارات مختلفة، فعلى الجهة العليا من اليسار أيقونة حورس عند الحضارة الفرعونية، ومن أسفل أيقونة النخلة العربية، ومن الجهة اليمنى من أسفل أيقونة للديناصور، ذلك الحيوان المنقرض. تمثل هذه الأيقونات
أو المؤشرات عتبات النص الشعري في (حجر يطفو على الماء)؛ لأننا نلاحظ وجود ارتباط قوي بين ما يحمله الغلاف من مراوغة ومتن الديوان وهوامشه من الداخل.
أو المؤشرات عتبات النص الشعري في (حجر يطفو على الماء)؛ لأننا نلاحظ وجود ارتباط قوي بين ما يحمله الغلاف من مراوغة ومتن الديوان وهوامشه من الداخل.
ويمكن أن نقول: إن رفعت سلام من أكثر الشعراء المراوغين على المستوى الفني لا الأخلاقي؛ لأنه يميل إلى الكتابة التقليدية المحفوظة المباشرة في الشعر، لكنه يجنح إلى الخيال والتجاوز والرفض والتمرد والامتزاج، إنه يحاول أن يمزج الحضارات الإنسانية بعضها ببعض، يقدِّم لغة تتجاوز السياقات التقليدية، باحثة عن السياقات المربكة التي تحمل جمالاً جديداً وروحاً صاخبة في الوقت نفسِه.
إن النص الشعري لدى سلام نص كوني تشاهد / تقرأ فيه الملامح الحياتية للعالم / الواقع، ويحتفي بالهامش على المتن وفي الوقت نفسه يلح على أن الهامش هو ابن المتن غير الشرعي الذي يحاول الخروج على المألوف والسائد.
ويمكن الولوج إلى عالم الديوان بدءاً من الصفحة الأولى.
يقول الشاعر
حجر يطفو على الماء الهوينى؛ أيها الزمن القاسي اتئد؛ قادم هو النسيان والسلوى وأسراب الخفافيش؛ سراب حتى مطلع الفجر، خراب يتمشى وئيداً في الشوارع، يصعد المنابر، بندقية مشرعة وهرواة مرفوعة، ما الوقت؟، كأنني، لكنني حجر على ماء غريب. (ص 5)
لا شك أن القارئ لهذا المقطع الشعري ينبت في ذهنه سؤالان: الأول لماذا كتب سلام هذا اللون من الشعر؟؛ وكيف كتبه؟، ومن الملاحظ أن إجابة السؤال الأول قد سبق وقد قمنا في المقدمة بطرحها، وقد بيَنَّا الأسباب وراء كتابة هذا الشعر، أما عن الشق الثانى وهو كيف كتبه؟، تبدو الرغبة الأولى فى تجميع الأشياء وتضفيرها رغبة ملحة على الذات الشاعرة نفسها، أين هى من هذا العالم الموبوء / القاسى على حد قوله. ومن ثم فإن طريقة الكتابة تتأتى عبر أدوات مختلفة، تكون اللغة أم هذه الأدوات؛ لأننا عن طريقها نصنع التغيرات المتفاوتة. ومن ثم فإن اللغة التى استخدمها سلام لغة مراوغة تعطيك نفسها ولا تعطيك معناها بمعنى أن المفردات قريبة منك تلمس كياناتك المتعددة تصيبك رغبة جامحة لفض دلالاتها، لكنها تأبى إلا أن تصدمك وتدهشك وتجعلك إنساناً قلقاً / متناقضاً. فالشاعر اهتم بفن الكتابة، كعلامات الترقيم، بناء الجملة من حيث الأسمية، والفعلية، الاتكاء على حروف ومفردات بعينها؛ ليصب هذا كله فى معين النص الشعرى.
الشاعر يستشرف أحداث المستقبل البغيضة فيما أظن، فيقول:
“أيها الزمن القاسى، اتئد، قادم هو النسيان والسلوى وأسراب الخفافيش، سراب حتى مطلع الفجر، خراب يتمشى وئيداً فى الشوارع.”
اهتم سلام بالبنط الطباعى فقد أصبح ميسوراً اللعب بالأبناط الطباعية وتوجيه دلالاتها المتعددة؛ لأن النص الذى يقدمه سلام لا ينفصل عن مواكبة الفنون الأخرى، كالموسيقى والفن التشكيلي، وا
لدراما – الأنواع الأدبية الأخرى.
لدراما – الأنواع الأدبية الأخرى.
نلاحظ فى الصفحة الخامسة التى تقدم قراءة عن ثلاثة أيقونات لها دلالات نصية / تقدم نصاً مغايراً أو محيطاً على حد قول “جيرار جنيت” وهي [ حورس – الشمس – الجعرانة الفرعونية، حيوان آخر يشبه الخرتيت]. هذه الأيقونات تشكل نصاً متضاماً مع النص السابق على الرغم من اختلاف اللغة التى كتب بها فهى لغة رمزية؛ لأن سلام اختفى بتقديم أكثر من نص داخل الصفحة الواحدة وهذا لا يخلو منه دلالة مفادها أن النص الشعرى عند رفعت سلام نص ثرى بما يتضمنه من أشكال متعددة ورؤى مائزة تجعله فى مصاف الشعراء الحداثين الذين قدموا / مايزالون يقدمون المشروع الحقيقي للقصيدة الحداثية فى الوطن العربى
احتفى النص الشعرى [حجر يطفو على الماء] بمجموعة من المتناقضات التى نتجت عن المراوغة / شعرية المراوغة إن جاز التعبير تتجسد هذه المتناقضات بدءاً من محاولة المزج بين نتاج الحضارات المختلفة كالفرعونية، الإسلامية، القبطية، اليونانية القديمة، الأوربية ومحاولة الجمع أيضاً بين الفن الشعرى الذى يتولد عن المفردات وسياقاتها وأشيائها، والفن التشكيلي وأدواته المختلفة قدم الشاعر مجموعة من التناصات المتعددة أيضاً كالتناص القرآني، الحديثي والشعري الأسطورى وهذا كله لايخلو من دلالات أيضاً وهى أن (حجر يطفو على الماء) هو نص عالمى مفتوح / اثر مفتوح على العالم يمكن أن يقرؤه العربي / الأوروبي / الإنسان في أى مكان من العالم المحيط
ونلاحظ التناص القرآني فى قوله “سراب حتى مطلع الفجر” استدعاء للآية القرآنية (سلام هى حتى مطلع الفجر) [القدر آية 7]
والتناص الشعري عندما يستدعى قول المتنبى :
[أغاية الدين أن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم]
فالشاعر يصدر كلامه بهذا القول؛ لأنه يجسد من خلاله الروح العربية المهزومة من الداخل، فـ “سلام”، والمتنبى يقفان على طرفى الزمن القديم والحديث.
التناص مع قول امرئ القيس فى قوله :
[ألا أيهــا الليــل الطويــل
ألا انجلى بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ]
يقول سلام : “أيها الليل الطويل الطويل الطويل” إن تكرار مفردِةِ [الطويل] ثلاث مرات يوحى هذا التكرار بالملل الذى أصاب الذات الشاعرة من جراء طول هذا الليل البغيض
بين الهامش والمتن يمثل الهامش – كما ذكرنا – ركناً أساسياً فى شعر رفعت سلّام فقد تفرد بهذه الخصوصية، ومن ثم نلاحظ أنه يربط فى بعض الأحيان بين الهامش والمتن فيقول:
فقلت : لم لا ؟
يا شعبى العزيز ، هاكم فرماناتى
1- أنا سيد البلاد والعباد والفساد
إلى آخر الآباد
2- على المعترضين أن يضربوا رؤوسهم فى الحائط أو يشربوا من البحر” الديوان ص7 .
نلاحظ هنا ارتباط العلاقة المباشرة بين الهامش الذى تجسد فى مقولة عرابي عام1881 أمام قصر عابدين فى مواجهة الخديوي توفيق. وأن هذه الأحداث التى استدعاها الشاعر فى المتن الشعرى تعبر عن رؤية الشاعر في ربط الماضي بالحاضر؛ لأن الحاضر لا يبتعد كثيراً عما كان يحدث في الماضي من ذل وقهر وخيانة. فالذات لشاعرة إذن مشغولة بتشكيل هذا العالم مرة أخرى وإعادة صياغته من جديد؛ فتطرح صوراً من الماضي، وصوراً من الحاضر؛ ليكونا وجهاً لوجه داعياً المتلقى أن يشارك فى صياغة هذا التغيير الكونى.
ونلاحظ أيضاً في الديوان ظاهرة الالتفات / اللعب بالضمائر فى قوله:
عكفتُ على تأليف النشيد الوطنى واختراع علم وشعار … إلخ ولمَّا انتهيت جمعتهم ليحلفوا لى يمين الولاء والطاعة العمياء فرموا بى الى البحر
فأين أنتٍ يا سيدة العالمين؟
أين أنت ؟
إن المتلقى الواعى لحركة الضمائر فى النص يلاحظ انتقال الشاعر من استخدام ضمير المخاطب إلى المتكلم الغائب؛ ثم يعود إلى المخاطب مرة أخرى ليختم المقطع ثم يعود للغائب مرة ثانية000 وهكذا ؟ فهى حركة لا نهائية تدل على الاستمرارية فى مخاطبة الآخر / الذات أو الكون بجميع مفرداته الحياتية.
ومن التواريخ المهمة أيضاً 16 نوفمبر 1951 أظن أنه تاريخ ميلاد الشاعر نفسه هذا التاريخ الذى يستدعى مجموعة من الأحداث والتغييرات المهمة التى حدثت فى مصر مثل (حريق القاهرة، ثورة يوليو1952). و
القضاء على الملكية وإعلان الجمهورية، وحكم العسكر فى مصر منذ تلك الفترة إلى الآن، ومن ثم فقد جعل الشاعرُ التاريخ هامشاً، ووضعه فى سياق مترابط مع المتن فيقول فى المتن:
القضاء على الملكية وإعلان الجمهورية، وحكم العسكر فى مصر منذ تلك الفترة إلى الآن، ومن ثم فقد جعل الشاعرُ التاريخ هامشاً، ووضعه فى سياق مترابط مع المتن فيقول فى المتن:
أيها الزمن القتيل
تقتلنى وتمشى فى جنازتى ، تلطم الخدين تحثوا التراب كامرأتى ، وتسبقنى إلى القاع ، تحتل مكانى المنتظر وتتركنى فى العراء الخواء .
تعلن الذات الشاعرة عن رفضها وتمردها على الزمن السائد الذى داهمها وحاول أن يتخلص منها من خلال أفعاله التى تنبىء عن الخطيئة الكبرى التى وقع فيها الزمن ومن ثم فقد احتفى الشاعر رفعت سلام فى هذا الديوان بالموت أو القتل، وكأن هذا الموت هو الظل السرمدى المتتبع لحركة الذات وأفعالها اليومية محاولاً بذلك قتل مفرداتها الصغيرة وأشيائها البسيطة.
إن خيانة الزمن هى الفكرة المسيطرة على رؤية الشاعر فالزمن خادع مراوغ، يقتل الإنسان مرات ومرات ويمشى فى جنازته ساخراً من هذا الإنسان الفطرى الساذج الذى اختل توازنه وأصابه الجزع والقلق من أفعال الحياة ومكرها هذه الحياة التى تريد أن تتخلص من البراءة والحقيقة والعدل؛ ليحل محلهم الخنوع والقهر والموت والخيانة الأبدية.
وأظن أن هذا الديوان يحمل الكثير من الآلام الحياتية التى أصابت العقل الجمعى بالنسبة للذات العربية / الآخر المغلوب أيضاً على أمره؛ ولذلك فإن نصوص الشاعر سلام تمثل إضافة حقيقية بالنسبة للشعرية العربية الحداثية؛ لأنه يكتب نصه بريئاً من الزيف وبعيداًَ عن التقليدية ودغدغة المشاعر والأحاسيس التي أصابت الأدب بالوهن؛ ومن ثم فإن قراءة النص الشعري لدى رفعت سلام يحتاج قدراً من التخلي عن الذائقة التقليدية التي تربى المتلقي على موائدها، فهو يكرس من خلال نصه لصياغة ذاتاً تجريبية جديدة ينتج عنها ذائقةً جديدةً من قبل المتلقي تسهم إسهاماً جديداً في التلقي المفتوح في النص الجديد، ومن ثم فإن ديوان حجر يطفو على الماء قد جاء مفعماً بالأحجار التي ترسخ للنص الشعري الحداثي (قصيدة النثر)، ولذلك فإنه يتكئ على القراءة البصرية؛ لأنه يحتفي بالإيقاعات البصرية المختلفة والرموز المتعددة التي صنعها الشاعر في هذا الديوان ومن قبله في الدواوين الأخرى.
د/ أحمد الصغير