يلجون البيوت من غير استئذان، ليصحبوا أهلها نحو بؤرة الحدث صوتاً وصورة.
جماهيرية واسعة هي تلك التي حصدوها. بيد أن أحدا لا يعلم حجم المخاطر المحدقة بهم، كما أن أحداً لا يدرك المشاعر المعتملة في قلوبهم من هول ما يرون ويكشفون.. إنهم المراسلون الإخباريون على خط النار في الأراضي المحتلة.
مشاعر متداخلة تتنازع مدير مكتب قناة الجزيرة في الأراضي المحتلة وليد العمري، بينما هو يقترب من القصف وجنود الاحتلال إلى حد الملاصقة.
ما بين موقفه كفلسطيني يرى أرضه وشعبه تحت الضربات المتتالية، وما بين معايير المهنية والموضوعية التي يحرص عليها، وما بين قلق والدته وزوجته وابنته عليه، يعيش العمري هذه الأيام من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تماماً كما هو حاله منذ انتفاضة العام 2000. يقول “أضع مشاعري جانباً برغم كل ذلك، وأنتصر لمهنيتي وتحيزي للحقيقة”.
العمري يضيف إلى ما سبق “مضايقات جنود الاحتلال” له كما باقي المراسلين والإعلاميين، فمن “التدقيق الشديد والملاحقات المستمرة”، مرورا بـ “محاولة تعطيل نقل الحقائق”، إلى محاولة الجنود قبل أيام “قطع كوابل الكاميرا والمايكروفون أثناء التغطيات”، إضافة إلى “نظرات الغضب والحنق” التي يرمقوننا بها.
مراسل قناة العربية في رام الله خالد القاسم يتحدث أيضاً عن عرقلة جنود الاحتلال لعمله الصحافي كما باقي زملائه. يقول “إنهم لا يمنحوننا بطاقات صحافة إسرائيلية كي نتنقل بحريّة، كما يضايقوننا على الحواجز، وكثيرا ما يصادرون كاميراتنا لرؤية ما سجلناه”.
يستذكر القاسم تبريرات الجنود الإسرائيليين في هذا الصدد: “أنتم تصوّروننا كشياطين أمام العالم”، ليردّ عليهم “نحن لا ننقل إلا ما تفعلونه بنا وبشعبنا، أم تريدوننا قول إنكم تستقبلوننا بالورود!”.
الإيمان بعدالة القضية وجدوى الإعلام في نصرتها هو من أهم ما يحفز القاسم على المضي في عمله الصحافي رغم المخاطر، التي يتمنى أن لا تراها على الشاشة والدته تحديداً.
مراسل التلفزيون الأردني في الأراضي المحتلة محمود الفروخ كاد أن يتعرض قبل فترة وجيزة لرصاص الاحتلال على حاجز قلنديا، بعد أن أصيب بأعيرة نارية في قدمه إبان اجتياح رام الله قبل عام ونصف العام، إلى جانب استشهاد زميله حينها وإصابة آخر إصابة بليغة. غير أن الفروخ لم يأبه لكل هذه الصعوبات والعراقيل، لإيمانه بالرسالة التي هو “مؤتمن على إيصالها للعالم”.
مراسلا “الجزيرة” في قطاع غزة وائل الدحدوح وتامر المسحال، يعتقدان أن التوصيف الأبسط لأوضاع المراسلين في الأراضي المحتلة هو “الصعب والخطير جداً”.
الدحدوح حاول قبل يومين الخلود إلى النوم بأمر من رئيسه، غير أن أصوات التفجيرات والمروحيات وسيارات الإسعاف لم تمكّنه من إغماض جفنيه، إلى جانب قلقه المتواصل على أبنائه الستة الذين لم يرهم إلا مرة واحدة خاطفة منذ بدء العدوان المتواصل على القطاع.
”إنجاز ليس بالسهل”، هكذا يصف الدحدوح نقله وزملاءه لوقائع الحرب على الأرض، خصوصا وأنهم لا يعتبرون ذواتهم صحافيين فحسب، بل و”جزءا من هذا الوضع المعاش”، كونهم مواطنين فلسطينيين. المسحال يصف الرسالة الصحافية الصادقة بـ “الحصانة الوحيدة” للمراسل من أي بؤرة حرب كانت.
وفي الوقت الذي يتجنب فيه المدنيون مواقع الضربات والقصف، فإن المراسلين يهرعون إليها لأداء واجبهم الوطني المهني، بحسب المسحال.
“فلسطينيون بكل ما تحمله الكلمة من تحديات”، هكذا يسبغ المسحال وصفه على ذاته وزملائه المراسلين.
مراسلة التلفزيون الأردني في غزة هناء عبدالرازق كانت عالقة في الأمس وسط قطاع غزة، بعد أن قسّمه الاحتلال لثلاث مناطق ونثر الدبابات في أرجائه. تقول “حتى الطرق الالتفافية قصفها الاحتلال وشل حركتها”.
عبدالرازق معتادة كما مراسلي الأراضي المحتلة والفلسطينيين على “المجازر وصور الدمار”، مستذكرة زملاء لها استشهدوا أثناء أدائهم واجبهم الصحافي، كمصور وكالة أنباء رويترز فضل شناعة. “السيارات الصحافية تُقصف، الرشاشات تُصوّب نحونا رغم عبارة (صحافة) التي نعلّقها على صدورنا، تكسير للكاميرات”، تقول عبدالرازق، مستعرضة بعض ممارسات الاحتلال ضد الصحافيين.
مراسلة قناة العربية في غزة حنان المصري لا تنكر عنصر الخوف الذي “يخالج المدنيين كما الإعلاميين في قطاع غزة”.
بيد أنها تعدّ ذلك “عامل تحفيز هائل” للعمل على نقل الصورة للعالم. المصري تقول بأن الصحافي “مستهدف في الأراضي المحتلة تماما كما المواطن العادي وأفراد الطاقم الطبي وكل فلسطيني”، مؤكدة أن المصور الصحافي هو “المستهدف الأول إعلاميا”.
وتصف المراسل في قطاع غزة تحديداً بـ “الفدائي”، والذي يعمل بـ “دموع عينيه حاملا روحه على كفه”.
تقر المصري بعجزها وباقي المراسلين عن نقل الصورة كلها في قطاع غزة، مستحضرة أكثر المشاهد التي آلمتها عندما شاهدت جثث عائلة استشهد جميع أفرادها جرّاء القصف، بينما هم “متحاضنين رغبة في حماية بعضهم بعضا”.
نظرات الرعب في عيون الأطفال، وقصف كل شيء حتى ألواح “الزينكو” في مخيمات غزة، الأطفال غير الآمنين حتى في حضون أمهاتهم، المساعدات التي يُسمح بإدخال قدر لا يُذكر منها لأهالي القطاع، كلها مشاهد تركت صوت المصري يتضرّج حزناً وقهراً، من موقعها كـ “فلسطينية أولا ومراسلة ثانيا”.
كذلك الحال مع مراسلتيّ “الجزيرة” في رام الله المحتلة شيرين أبو عاقلة وجيفارا البديري. كلتاهما تُجمعان على أن الخطر في الضفة الغربية “أقل بكثير” من ذلك الذي يتعرض إليه زملاؤهن في قطاع غزة. تقول أبو عاقلة “ليس هنالك وقت لنفكر في حجم المخاطر المحدقة بنا”.
البديري نطقت بـ “الشهادتين” في كثير من المواقف الخطرة التي تعرضت لها، وماتزال، إذ شعرت بأن الموت “قريب جداً حينها”، كما تقول. غير أنها كانت لا تلبث أن تتماسك وتعود للتركيز في نقل الحدث لـ “تعرية الادعاءات الإسرائيلية أمام العالم، ولنقل الحقائق كما تقتضيها المهنية”.
أبو عاقلة ترى أن نقل الحقائق والأحداث في الأراضي المحتلة “لا يحتاج إلى أي تبهير أو مبالغات من قِبل أي مراسل”، إذ إن الحقائق على أرض الواقع “أصعب وأسوأ بكثير” مما تستطيع الصورة نقله.
المهنية والحيادية من أكثر ما تركز عليه كلتاهما. البديري تسوق مثالاً عن بعض زملائها في قطاع غزة، والذين كانوا يغطون خلال هذه الأحداث وقبلها قصص الشهداء وأعدادهم بكل رباطة جأش ومهنية، لينفجروا في بكاء مرير بعد أن تُطفَأ الكاميرات، لأن من الشهداء أهالي لهم وأقرباء وأصدقاء طفولة.
”نعود بعد نقلنا للحدث مواطنين فلسطينيين يعانون مصادرة الحقوق والحريات”، تقول أبو عاقلة والبديري. بيد أن كلتيهما تدفعان ثمناً باهظاً لمهنتهما “الشاقة والخطيرة”، إذ لطالما لم تتمكنا من رؤية عائلتيهما لأيام طوال إبان الاجتياحات والقصف المتواصل، كما خلال الأعياد والمناسبات العائلية، ليجدن برغم ذلك “دعما وتشجيعا” من العائلة والمعارف.
صعوبة أخرى تواجهها أبو عاقلة والبديري، وهي “الانتقاد من قِبل جميع الفصائل”، إذ إن كل فصيل يعتقد بأن المراسل “متواطئ ضده في نقل الخبر”. البديري تقول إن هذا الانقسام الفلسطيني هو “الأكثر إيلاما” بالنسبة للمراسلين في الأراضي المحتلة كعموم الشعب الفلسطيني.
“كله يهون عندما نرى تفاعل الناس مع الحقيقة التي ننقلها”، تقول أبو عاقلة والبديري.
وتعترفان أن “الحقائق غير المكشوفة بعد عن معاناة الفلسطينيين” تحفزهما للمزيد من الجد والعمل المتواصل.
لعل من أكثر المواقف المؤثرة التي واجهت البديري، كانت عندما رأت صحافيين أجانب وإسرائيليين يبكون على الفلسطينيين إبان اجتياح كنيسة المهد في العام 2002. تقول “لا أنسى سؤالهم لنا: كيف احتمل الفلسطينيون ومايزالون كل ذلك؟”.