قد تكون الأمم المتحدة ما تكون، إلا أن مجلس الأمن فيها هو المؤسسة الأكثر تعبيرا عن الانحطاط الأخلاقي والانحياز والأنانية واختلال الموازين وفقر القيم.
والأدلة على ذلك أكثر من أن تُعد.
تكوين المجلس نفسه (حيث يحتكر “الخمسة الكبار” لأنفسهم الحق بوقف أي قرار مهما كان عادلا أو ضروريا) يكفي بحد ذاته للقول أن هذا المجلس لا يجسد أدنى متطلبات حفظ الأمن، ولا حتى الموازين الدولية المتغيرة.
من حيث المبدأ، فان “حق الفيتو” الذي منحته الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا وفرنسا والصين لنفسها عقب الحرب العالمية الثانية، كان يعكس حاجةً لم تعد ضرورية اليوم.
فالصراعات بين هذه الدول أصبحت شيئا من الماضي. ونشأت في خضم المتغيرات قوى دولية جديدة. وأصبح الاقتصاد، لا الأسلحة النووية، هو المعيار الأساسي للقوة والنفوذ الدولي. وهذا ما كان يفترض أن يفتح الباب لدول مثل اليابان وألمانيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا وايطاليا وماليزيا لدخول نادي الفيتو.
وبصرف النظر عن المجادلات التقنية حول كيفية إعادة ترتيب الاعتراف بحقوق هذه الدول، فان السؤال الذي لم ترق إليه الأفهام بعد هو: هل هناك حاجة بالفعل لبقاء “حق النقض”؟
قبل أي مجادلات بيزنطية، فان الكيفية التي تم استخدام هذا الحق فيها تكفي لتقديم الجواب.
أولا، لم يسهم هذا الاستخدام، ولا لمرة واحدة، لا في منع وقوع حرب كان يجب أن تقع، ولا في تحقيق سلام كان يجب أن يتحقق. كل ما حصل هو أن الدول الخمس ظلت تستخدم هذا “الحق” كعصا تناسب سياستها الخارجية لعرقلة مطالب ترغب بها غالبية دول العالم الأخرى.
واقتصر الأمر في كثير من الأحيان على الحيلولة دون توجيه إدانة لهذا المعتدي أو ذاك، فيما ظلت الاعتداءات نفسها مستمرة.
وعمليا، كان استخدام الفيتو بمثابة إشارة للمعتدي لكي يواصل عدوانه. وفي هذا ما يكفي دليلا على أن استخدام “حق الفيتو” لم يوفر ظروفا أفضل لحفظ الأمن والسلام الدوليين، وإنما لزيادة تهديدهما، ولتصعيد التوترات، ولدفع الضحايا الى الشعور بالمزيد من الإحباط ولإلحاق المزيد من الأذى بهم.
أسوأ من ذلك، فان بقية الدول الكبرى غالبا ما كانت تعتبر “الفيتو” نهاية الفصل في مساعيها لوقف العدوان. وهو ما يجسد تسليما بقبوله، لا يتناسب مع القيم التي أقرها ميثاق الأمم المتحدة. كما انه أثبت أن هذه الدول تنافق بعضها بالتسليم بدلا من أن تؤدي واجبها في ضمان العدالة وحفظ الأمن وتحقيق السلام.
ثانيا، استخدام الفيتو كأداة لحماية المصالح الخاصة، إذا كان يعبر عن نزعة أنانية مثيرة للجدل، فانه كان يُضفي على هذه الأنانية شرعية لا تستحقها.
تستطيع الدول الكبرى والقوية عسكريا أن تحمي مصالحها كيفما تشاء. وهي إذا رغبت بان تشن حروبا للدفاع عن هذه المصالح أو لتوسيعها، فإنها لن تتردد. أما أن تستخدم الفيتو لإضفاء شرعية على هذه المصالح، أو لإملائها على الغير، فهذا سلوك، بالأحرى، سافل، وينطوي على إهانة مباشرة لكل قيمة من قيم العلاقات الدولية.
ثالثا، كثيرا ما كان الهدف من استخدام الفيتو ليس إنصافا لمظلوم، وإنما منعا لإنصافه.
ما ظل يحصل هو أن مجموعة من الدول تتقدم لاتخاذ قرار يحمي شعبا أو يدافع عن قضية ذات طبيعة إنسانية، ولكن واحدا من أولئك الخمسة “الكبار” يُحبط القرار لأنه يتعارض مع مساندته وتضامنه مع المجرم والمعتدي والظالم.
رابعا، عندما يتعلق الأمر بالعدالة والأمن والسلم، فان الفكرة من وجود “كبار” و”صغار” هي نفسها خاطئة، وتنسف من الأساس شرعية امتلاك أولئك الخمسة لـ”الحق” بمنع توفير العدالة وإحلال الأمن وتحقيق السلم.
الدفاع عن الأقليات وضمان حقوق الإنسان وحماية المدنيين في أوقات الحرب، جزء من القيم الإنسانية الأساسية. لا يوجد “كبير” ولا “صغير” بالنسبة لهذه القيم. ولا يجوز لأي “كبير” أن يستخدم نفوذه للحيلولة دونها.
استصغار شعوب العالم الأخرى هو نفسه أمر خاطئ أيضا. فبما أن القضايا التي تُعرض على مجلس الأمن هي “قضايا” ذات معنى إنساني شامل، فان وجود “كبار” و”صغار” أمر غير ذي صلة أصلا.
ما علاقة “كبر” الولايات المتحدة (الاقتصادي او النووي) او “صغر” بوروندي، بقضية تتعلق بحقوق قبائل الزولو في جنوب أفريقيا؟ أو بجرائم يتعرض لها الهوتو او التوتسي في رواندا؟
هل يجوز أن يكون هناك “كبير” و”صغير” في قضايا العدل والقيم والحقوق؟
معقول؟
إذا بدا الأمر غير معقول، فليس من المعقول أبدأ أن يمتلك أي أحد القوة التي تخوله لوقف أي جهد دولي لتوفير العدالة.
وعدا عن استخدام مجلس الأمن كمطية لشن حروب والتغطية على ارتكاب جرائم، الأمر الذي يناقض من الأساس سبب وجوده، فان ما يحصل في كواليسه وأروقته من أعمال ابتزاز ومساومات وضغوط تكشف، بحد ذاتها، عن الطبيعة الخسيسة التي آلت إليها العلاقات الدولية في ظل هذا المجلس.
وما يزال ملف الجريمة التي ارتكبت بحق العراق مفتوحا. فهذا المجلس لم يكتف بتشريع أبشع أنواع الحصار والحرمان ضد عضو مؤسس لمنظمة الأمم المتحدة فحسب، ولكنه سمح بتمرير غزو، وتشريع إحتلال، والتغطية على جرائم، بناء على مبالغات وأكاذيب ومسرحيات هزلية أيضا.
مجلس الأمن أثبت بهذا العمل الوحشي انه مؤسسة جريمة، ويستحق أن يواجه المحاكمة، لا أن يبقى مسرحا للمزيد من الأعمال الهزلية.
وكل هذا سيئ. ولكن هناك ما هو أسوأ منه.
فكما حدث خلال العدوان الإسرائيلي
على لبنان عام 2006، يتحول مسرح الجريمة اليوم الى مجلس للمناورات والمماطلات لكي يسمح للقتلة الإسرائيليين أن يواصلوا أعمالهم الوحشية ضد الأبرياء في غزة.
والمماطلة ذات معنى. والمعنى يدمر من الأساس مبرر وجود هذا المجلس. وهو يكشف أن القوى الفاعلة فيه تستخدمه للتواطؤ مع الجريمة ولمنحها وقتا أطول، للإيقاع بأبرياء أكثر.
وهناك من يتورط في مهازل هذا المجلس وسخافات قواه العظمى، لا لشيء إلا من اجل إصدار “قرار” لا قيمة فيه من الناحية العملية، لينضم الى حشد من القرارات السابقة التي لم يعد لها معنى، ولم تحقق أي هدف.
هذا الواقع المخزي يبرر التساؤل: ما قيمة الذهاب الى مجلس الأمن أصلا؟ ما مبرر السعي لصدور قرار لا يساوي شروى نقير؟ وسواء أُحبط القرار المقترح بالفيتو أم لم يُحبط، فما هي قيمته كله على بعضه؟
ثم، ألا يبدو التورط بمجادلات ومساعي فارغة، ومُحبَطة سلفا، نوعا من الشراكة في عمل مسرحي لا يغني ولا يُسمن؟
ولدينا من القرارات السابقة ما يكفي لتحقيق عشرين أمن وعشرين سلام. فأين انتهت كل تلك القرارات؟
إذا كان لديكم مزبلة، فانظروا فيها وسترون العشرات من القرارات الدولية التي تعفنت لتدل على مدى تفسخ هذه المؤسسة.
لقد آن الأوان لتقولوا: طز في مجلس الأمن الدولي.
إن مقاطعة هذه المؤسسة، كليا، خيرٌ من المشاركة في مسرحياتها الهزلية.
فلنترك هذه المؤسسة تتخذ من القرارات ما تشاء، وقتما تشاء. ومثلما تمسح إسرائيل قفاها بالعشرات من القرارات الدولية، فليس كثيرا على الضحايا أن يمسحوا قفاهم بالمزيد منها.
كائنة ما كانت تلك القرارات، فانه يمكن القول أنها لا تعنينا. وطالما أن مجلس الأمن لم يثبت انه يحترم نفسه، بالعمل على تطبيق قراراته السابقة، ابتداء من القرار 191، فليس ثمة ما يلزم أي احد بالإلتزام بأي قرار جديد أو التعويل على قيمته.
“طز”.
تلك هي الكلمة الوحيدة المناسبة في العلاقة مع هذه المؤسسة، بكل ما فيها من أعضاء “كبار”.