بقلم محمد أحمد النابلسي
لدى إطلاقها وضعت إسرائيل جملة أهداف عسكرية وسياسية لعملية “الرصاص المصبوب”، فوفق تصريحات السياسيين والعسكريين الإسرائيليين هدفت إسرائيل ترميم صورة الردع للجيش الإسرائيلي التي تضررت بفعل حرب يوليو/تموز عام 2006، وتعزيز أمن منطقة جنوب إسرائيل عن طريق تدمير البنية التحتية والقدرة الصاروخية لحركة حماس. وسياسياً، سعت إسرائيل إلى “إحداث تغيير على الأرض (في غزة)” وفق تصريح وزيرة الخارجية تسيبي ليفني في مقابلة مع شبكة CNN مساء اليوم الثاني من الهجمات، بمعنى أنها أرادت من العملية، في نهاية المطاف، تقويض حكم “حماس” في غزة.
ورغم الميل الطبيعي والمنطقي للمقارنة بين حرب غزة وحرب تموز اللبنانية إلا ان الاولى تأتي في ظروف إقليمية ودولية مغايرة إضافة لإختلاف طبيعة أرض المعركة واختلاف الاهداف الاسرائيلية منها والغايات الاقليمية والدولية من المهلة المعطاة لإسرائيل كي تنجزها.
بداية لا بد من التذكير بان اسرائيل تخضع بصرامة للمبدأ الاستراتيجي الاميركي القائل بتحديد المدة التي تنجز فيها الحرب أهدافها. ذلك ان دخول اسرائيل في حرب مفتوحة يورط الولايات المتحدة ويحرج أصدقاءها في المنطقة. وهكذا جاء تمديد حرب تموز بأوامر أميركية طمعاً بلوغها غاياتها. اما اليوم فان أوباما سيتسلم الحكم في العشرين من شهر يناير الحالي. وهو غير متحمس لتسلمه مع حرب غزة. فهي تفخخ توجهاته الديمقراطية للخوض في سلام المنطقة. حتى ان بعض المحللين يتهمون بوش وادارته بتفخيخ هذا الملف ومعه ملفات أكثر تعقيداً في وجه أوباما لتعويقه على الأقل من تحقيق انجازات سريعة من شأنها مضاعفة القرف الاميركي الداخلي من بوش ومن حزبه الجمهوري وكوارثه التي جلبها ومنها الازمة المالية.
أما بالنسبة للمواقف العربية فقد ترك اغتيال الحريري رصيداً اقليمياً يجبر الاطراف المستفيدة على مراعاة مشاعر وتوجهات الشارع اللبناني. وهو إجبار غير متوافر في حالة غـزة. حيث بلغ دعم هذه الاطراف لمحمود عباس وسلطته حدود تقسيم دولة أوسلو الى قطاع وضفة.
الأهم هو خوف معارضي المقاومة من انتصارها. فقد كان استيعاب انتصار حزب الله باعتباره مرتبطاً بايران وباعتبار ان سنة السوليدير قد حولوا لبنان الى جمهورية إسلامية جديدة ومختلفة. وهو ما لا ينطبق على غزة حيث يمكن الإختلاف مع حماس وحولها ولكن دون التجروء على التشكيك في سنيتها. ذلك ان انتماءها الأخواني يقف خلف عداء اطراف عربية عديدة لها. إذ أن مواقف الأخوان من فئات معينة من المسلمين معروفة ولا تحتاج لاعلان أو لتذكير. والأهم انها تحظى بتعاطف عربي وسني واسلامي لا يحظى به الكثير من الأنظمة العربية.
هكذا فان انتصار حماس في حرب غزة سيكون صعب الوطأة على الدول التي لم تقف الى جانب حماس. وسيكون أكثر خطورة من معارضة حرب تموز. وأخطر منه داخل هذه الدول المتعاطف مع حماس. فهذا الداخل سيطرح أزمات داخلية معقدة في حال انتصار حماس. وهنا لا بد من التذكير بان حروب المقاومات تختلف عن حروب الدول. ففي الثانية يكون الانتصار للأقوى عسكرياً وتكرسه هزيمة الطرف الآخر. أما في حروب المقاومات فان النصر لا يكون للأقوى بل يكون للأكثر إصراراً وللأقدر على تقديم التضحيات. وبهذا المعنى انتصر حزب الله وستنتصر حماس.
وننتقل لإسرائيل التي يتساءل كثيرون اليوم عن مدى استفادتها من تجربة حرب تموز. فيما يجب سؤالها عن ادراكها وبعد ستة عقود على انشائها بان المقاومة لاتزال مستمرة؟!. فهل تكفي هذه الفترة لاقناعها بان بقاءها مرتبط بإبادة العرب وهي حاولت وتحاول ذلك عبر اليورانيوم المخصب وعبر الخضار المتسببة بالعقم التي تسربها للأسواق العربية وكذلك عبر حشر الفلسطينيين في حدودهم حتى باتت غزة اكثر مناطق العالم كثافة. وفي هذا المجال يقول عالم النفس اليهودي ليوبولد سوندي أن القاتل والقتيل من طينة واحدة. وهو ينطبق على صراعنا مع اليهود فكلنا ساميون. ولو أدركت اسرائيل ذلك لأدركت أن كل أساليب الديمقراطية لاتنفع مع هذا الشارع العربي. بما فيها ديمقراطية المليون قتيل في العراق وقبلهم مليون في الجزائر. ومثلها ديمقراطية فيلتمان وانتخاباته في لبنان. وليس أقل منها ديمقراطيات فلسطين ومعها الباقون من الغاوين. وهكذا فان اصرار إسرائيل على دور القاتل طيلة ستين عاماً يجب ان يجعلها تتحسب لليوم الذي ستلعب فيه دور القتيل ولو بعد حين. مع فارق أخير هو انها تستطيع لعب هذا الدور مرة واحدة لفقدها مبدأ “التضحية” وهو الذي جعلنا نموت كل هذه المرات ونبعث. أوليس من تعاليم التلمود القول: ” إذا تعارضت مصلحتك مع مصلحة الرب فإختر مصلحتك”….