بقلم نقولا ناصر*
ان “المشروع” السياسي الذي تحمله الدبلوماسة العربية الى مجلس الامن الدولي للمصادقة عليه بقرار “ملزم” تحت عنوان “وقف العدوان فورا” على قطاع غزة يكاد يتقاطع حد التطابق مع الرؤية الاسرائيلية لوقف العدوان ، واذا ما اجازه مجلس الامن فعلا فانه سيكون انتصارا دبلوماسيا باهرا تحققة دولة الاحتلال الاسرائيلي هو الثاني الذي تحققه خلال اقل من شهر لانه سيضفي شرعية الامم المتحدة على الشروط الاسرائيلية “العسكرية” المعلنة لوقف العدوان بعد ان منح المجلس هذه الشرعية للرؤية الاسرائيلية “السياسية” لحل الصراع “سلميا عبر التفاوض” مع الشعب الفلسطيني باصداره قراره رقم 1850 في السادس عشر من الشهر المنصرم .
صحيح ان الوقت العصيب الراهن يقتضي رص الصفوف الوطنية الفلسطينية والقومية العربية لوقف عدوان عسكري يستهدف فرض نظام سياسي فلسطيني بواسطة قوة مسلحة معادية ، يذكر بالغزو فالاحتلال الاميركي الذي استهدف “تغيير النظام” في العراق قبل خمس سنوات ، ويقتضي حسا رفيعا جدا بالمسؤولية التاريخية للاستنكاف عن صب الزيت على نار التناقضات الفلسطينية والعربية الثانوية في مواجهة التناقض الرئيسي مع دولة المشروع الصهيوني ، غير ان حقائق هذه التناقضات الثانوية قوية بحيث لا تترك أي مجال للصمت على هجوم سياسي يقوده المفاوض العربي والفلسطيني لا يمكن تفسيره ، مهما كانت النوايا حسنة ، الا بكونه استثمارا سياسيا للعدوان العسكري ، وهو هجوم سياسي اخطر من العدوان ، واجهته فلسطينية وعربية لكنه في الحقيقة اميركي – اسرائيلي ، يجري يالتزامن وبموازاة الهجوم العسكري على قطاع غزة ، لجني الحصاد السياسي للعدوان .
لقد كان مجلس الامن الدولي دائما طريقا مسدودا ليس امام المقاومة الفلسطينية فقط بل امام المفاوض الفلسطيني ايضا ، وكان المخرج الدبلوماسي الوحيد المفتوح امام المقاوم والمفاوض الفلسطيني كليهما هو المخرج العربي ، وقد اختار وزراء الخارجية العرب يوم الاربعاء الماضي سد هذا المخرج امام المقاومة الفلسطينية للعدوان تماما مثلما اغلقت الدبلوماسية العربية هذا المخرج امام المفاوض الفلسطيني عندما اختارت التعاهد على السلام المنفرد وتطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال قبل ان يحقق هذا المفاوض الحد الادنى من حقوقه على الورق ، ناهيك عن تحقيقها واقعا على الارض .
ان خطاب الرئيس المصري حسني مبارك يوم الثلاثاء الماضي عشية الاجتماع “الطارئ” لقادة الدبلوماسية العربية بعاصمة بلاده في اليوم التالي كان خطوة استباقية اكدت رفض القاهرة لممارسة السيادة المصرية لفتح معبر رفح من جانب واحد او بالتنسيق الثنائي مع الجانب الفلسطيني ، مما اجهض اقتراح عقد قمة عربية كان توفير غطاء عربي لاقدام مصر على هذه الخطوة هو البند الاهم على جدول اعمالها ، ودفع وزراء الخارجية العرب الى خيار الذهاب الى مجلس الامن بدلا من ذلك .
ويخطئ حد الخطيئة ايا كان من يسعى الى تحويل المقاومة الفلسطينية من التصدي للاحتلال الاسرائيلي وعدوانه المتواصل على القطاع المحاصر الى معركة فلسطينية – عربية او عربية بينية ، كلامية او سياسية او غير سياسية ، بحجة التواطؤ او الخذلان العربي لهذه المقاومة ، بغض النظر عن صدق هذه الحجة او عدم صدقها ، لكن يخطئ اكثر حد الخطيئة المؤكدة ايا كان من يسعى ، مستقويا بالعدوان ، الى الاستثمار الفلسطيني او العربي لهذا العدوان استثمارا سياسيا من اجل حسم اصطراع فصائلي فلسطيني او لفرض الاجندة الاميركية – الاسرئيلية على المعارضين الفلسطينيين لها ، وهذا هو بالتحديد ملخص المشروع السياسي الذي تحمله الدبلوماسية العربية الى مجلس الامن الدولي .
فقد كانت هذه هي خلاصة نتيجة الاجتماع “الطارئ” (بعد خمسة ايام من بدء العدوان!) لوزراء الخارجية العرب في القاهرة يوم الاربعاء الماضي ، عندما قرروا التنصل من مسؤولياتهم العربية المفترضة لمواجهة العدوان باجهاض عقد قمة عربية مقترحة لهذا الغرض والاستعاضة عنها بالهروب الى مجلس الامن الدولي الذي يعرف قادة الدبلوماسية العربية قبل غيرهم ان انه كان وما زال منذ النكبة قبل اكثر من ستين عاما بوابة مفتاحها مصادر ومغلق عليه بالشمع الاحمر في العاصمة الاميركية عندما يتعلق الامر باي عدالة للشعب الفلسطيني .
ولان قادة الدبلوماسية العربية كانوا يعرفون قبل غيرهم ان مشروع القرار الذي قدمته مصر وليبيا باسمهم الى مجلس الامن كان بالتاكيد سيواجه “الفيتو”
الاميركي باعتباره “غير مقبول” لانه “غير متوازن” ، كما حدث فعلا ، فان اختيارهم الذهاب الى مجلس الامن بدل الذهاب قبل ذلك الى قمة عربية تخرج بموقف عربي يبعث برسالة جادة الى المجلس بان القادة العرب جادون حقا هذه المرة في سعيهم الى “الزام” دولة الاحتلال الاسرائيلي بوقف العدوان “فورا” ، كما جاء في مشروع القرار ، انما هو تحرك محكوم عليه بالفشل المسبق وبالتالي فانه تحول عمليا الى ضوء اخضر عربي لاطالة امد العدوان ، دون أي امل في أي تدخل للمجتمع الدولي يوقفه ، اذ ماذا يبقى لاي منظمة اقليمية او دولة منفردة لكي تفعله بعد ان يفتى المنبر الدولي الارفع مستوى ، الممثل في مجلس الامن الممثل بدوره لكل المنظمات الاقليمية والقوى العظمى النافذة ، بان المشروع العربي “غير مقبول” لانه “غير متوازن” ، كما قال المندوب الاميركي يوم الاربعاء الماضي ؟
الاميركي باعتباره “غير مقبول” لانه “غير متوازن” ، كما حدث فعلا ، فان اختيارهم الذهاب الى مجلس الامن بدل الذهاب قبل ذلك الى قمة عربية تخرج بموقف عربي يبعث برسالة جادة الى المجلس بان القادة العرب جادون حقا هذه المرة في سعيهم الى “الزام” دولة الاحتلال الاسرائيلي بوقف العدوان “فورا” ، كما جاء في مشروع القرار ، انما هو تحرك محكوم عليه بالفشل المسبق وبالتالي فانه تحول عمليا الى ضوء اخضر عربي لاطالة امد العدوان ، دون أي امل في أي تدخل للمجتمع الدولي يوقفه ، اذ ماذا يبقى لاي منظمة اقليمية او دولة منفردة لكي تفعله بعد ان يفتى المنبر الدولي الارفع مستوى ، الممثل في مجلس الامن الممثل بدوره لكل المنظمات الاقليمية والقوى العظمى النافذة ، بان المشروع العربي “غير مقبول” لانه “غير متوازن” ، كما قال المندوب الاميركي يوم الاربعاء الماضي ؟
والخيار الاخر امام الدبلوماسية العربية كي يوافق مجلس الامن على مشروعها هو ان تاخذ بنصيحة وزير الخارجية المصري احمد ابو الغيط (فضائية العربية الخميس الماضي) بابداء “المرونة لاقناع الاخرين بمطالبنا” ، والمرونة هنا تعني فقط التقاطع مع الشروط الاسرائيلية – الاميركية لوقف العدوان ، واول هذه الشروط طبعا هو مقاربة الحل باعتبار المشكلة تكمن في العنف المتبادل لا في الحصار ، وان الحل يبدا بوقف العنف لا برفع الحصار ، وان المطلوب من اجل ذلك هو توفير ضمانات دولية تكفل التزام حماس بما اسماه البيت الابيض الاميركي بتهدئة “دائمة ومستدامة” ، وان ارسال قوة مراقبين او قوات دولية الى قطاع غزة لضمان التزام المقاومين للحصار هناك بالرضوخ للحصار دون اية مقاومة هو في راس هذه الضمانات ، ثم اعادة الرئاسة الفلسطينية باعتبارها الشرعية الفلسطينية الوحيدة المعترف بها طبقا لقرار مجلس الامن رقم 1850 الى معابر القطاع ، وخصوصا الى معبر رفح ، ومعها دولة الاحتلال ، طبقا لاتفاق معبر رفح عام 2005 ، كضمانة اخرى .
وهذه المطالب الاميركية الاسرائيلية هي نفسها العناوين الرئيسية للمشروع العربي الذي يقود الرئيس الفلسطيني محمود عباس فريق وزراء الخارجية العرب للدفاع عنه امام مجلس الامن يوم الاثنين ، والذي تعهد احد كبار معاونيه بان الرئيس لن يعود من نيويورك الا بعد اقراره . ومهما حسنت النوايا لا يوجد أي تفسير آخر لهذا الهجوم الدبلوماسي العربي – الفلسطيني سوى انه استثمار للعدوان يفرض حصارا دبلوماسيا بموازاة الحصار العسكري والاقتصادي المفروض على القطاع ويكمله .
ومن المؤشرات الاكيدة على ان هذا حصار دبلوماسي يراد فرضه المفارقة الكامنة في استبعاد أي ممثل للقيادة التي تقود المقاومة ضد العدوان عن مداولات مجلس الامن لوقفه ، وفي اعتماد الرئيس عباس الذي يمثل برنامجا سياسيا نقيضا لبرنامج المقاومة بل في حالة صدام معه ليفاوض على تهدئة لا يملك الالتزام بها او نقضها كون التهدئة هي عنوان وجوهر البرنامج السياسي الذي يقوده ، في سابقة تتجاهل تماما مقولة ان من يصنعون الحرب هم فقط من يستطيعون صنع السلام .
ولا يستطيع المراقب في هذا السياق سوى تسجيل مفارقة اخرى تتمثل في ان العدوان على القطاع قد نقل مركز الحدث الفلسطيني من التفاوض السري في الدهاليز المغلقة الى المقاومة الدامية للعدوان الهمجي على الارض المكشوفة ، مما دفع بالمفاوض الفلسطيني الذي تقوده الرئاسة الى الظل الاعلامي ليعتكف اسيرا للوقت الضائع في انتظار نتائج الاستحقاقات الدستورية لتغيير القيادات الحاكمة لشركاء التفاوض الفلسطيني الاسرائيلي الاميركي ، وقد كانت انهار الجماهير الجارفة التي اجتاحت شوارع العواصم العربية والاسلامية والعالمية دفاعا عن المقاومة وتضامنا مع برنامجها تصويتا ثانيا بالثقة ، غير فلسطيني هذه المرة ، في المقاومة الفلسطينية وبرنامجها بعد منحها الثقة — او بعد سحب الثقة من المفاوض الفلسطيني وبرنامجه كما يفضل آخرون القول — في الانتخابات التشريعية الفلسطينية قبل عامين ، مما كاد يغرق المفاوض الفلسطيني ورئاسته في عزلة سياسية خطيرة لم يكن له منها أي مخرج سوى المسارعة الى الاستثمار السياسي للعدوان !
*كاتب عربي من فلسطين