بوّاب العمارة يرى كلَّ شيء، ويُمررُ كلَّ شيء. وطالما انه يحصل على “المعلوم” فكلُّ شيءٍ ممكن، وكلُّ شيءٍ مقبول. أما “المعلوم” فهو ثمن السمسرة.
وفي العمارة يوجد الصالح والطالح. ولكن دَوْر بوّاب العمارة هو أن يخدم الجميع على حد سواء.
ويقول للذي يدفع: “حاضر يا بيه”، “تحت أمرك يا بيه”.
هذه هي كل قصة “الدور المصري” في المنطقة. أو هذا هو كل ما بقي من هذا الدور. فالفرعون قد يبدو فرعونا على “الغلابة”، إلا انه ليس سوى بوّاب عمارة بالنسبة للآخرين. يفتح لهم الأبوّاب ويمسح البلاط، وقد “يتْمسح” فيه البلاط، إلا انه يظل يؤدي “دوره الإقليمي” على أحسن ما يرام.
وبوّاب العمارة بلا ضمير عادة. لأنه يعرف أن مهنته تتعارض مع أي ضمير. فهو إذ يرى “الطالع” و”النازل”، لا يسعه أن يجعل من ضميره عائقا أمام “مصالح” سكان العمارة، وعليه أن يتفهمها، بل ويقدم لها التسهيلات. يعمل مشاوير لـ”الست هانم”، على نفس السوية التي يؤدي فيها خدماته لـ”سي السيد”.
والهانم قد لا تعود إلا “وجه الفجر”، ولكنه يتقي الله فيها بالظن. فحتى لو عادت للتو من “الكباريه”، إلا انه يؤدي لها التحية كما لو انها عادت من “سيدنا الحسين”.
وهو ليس لديه “مشروع”. مشروعه الوحيد خدمة مصالح سكان العمارة. وطموحه بسيط: أن يأكل “لقمة العيش”، يوما بيوم. ويعيش على البركة. “شوية من هنا، وشوية من هناك”، و.. “أهي عيشة”.
وهو يحاسب أطفاله على أكلهم، ويُشعرهم انه يمنّ عليهم، وأنهم من دونه “ولا حاجة”، وذلك لأنه ليس لديه ما يعمله أكثر، ولأنه لا يستطيع أن يبحث عن “وظيفة” أخرى، ولا على عمل إضافي. فشغل بوّاب العمارة، 24 ساعة في اليوم. ويتطلب منه أن يكون جاهزا لكل شيء.
وتلك قد تكون “عيشة قرف” إلا أنها مضمونة على الأقل. فهو لا يرغب بالمغامرة. حتى انه يخشى الذهاب بعيدا عن العمارة لئلا تتعرض لشيء “مش ولابد” في غيابه.
أفقه هو أفق العمارة، بعدد أدوارها. هذا هو كل عالمه. وكلما كان سكان العمارة ناجحين في “مصالحهم” كلما شعر هو بأنه “كسبان”. وهو يعرف أن أول الفتات سيكون من نصيبه، وسيكون سعيدا به، ويمنحه الاعتقاد بأنه “مهم”.
ومع انه ليس سوى بوّاب، إلا انه يتصرف كما لو انه مالك العمارة. فهو مخول عُرفيا بان “يحرس” و”يخدم” و”يسهل أمور الجميع”. ويشعر، كما يُشعر الآخرين، بأنها ستخرب من دونه.
وفي وقت من الأوقات كان لأسلافه “عزبة” سياسية، وكانوا مؤثرين في محيط الكثير من العمارات في المنطقة، بل أن بعضهم كان يستطيع أن يهز العروش.
إلا أن شيئا ما حصل، وتم بيع “العزبة” للباشا الذي “يملك 99% من أوراق الحل”. ومنذ ذلك الوقت لم يبق له من دور سوى أن يكون بوّاب العمارة.
ولعله يستطيع ان يرى أن “الباشا” “متدبس” في مشاكل لها أول وليس لها آخر، وانه لا يملك في الحقيقة ولا حتى 1% من أوراق الحل، إلا أن لسان حاله يقول “العين ما تعلاش على الحاجب”.
فالبوّاب بوّاب، والباشا باشا.
وفي الواقع، فان للبوّاب مهابة خاصة به. فبما انه يعرف الكثير، فان الكل يطلب الستر، ويشتري سكوته. والثمن ليس بكثير على أي حال. وفي مقابل الخدمات الأخرى التي يؤديها، فان القبول بدوره كحاكم فعلي على باب العمارة “شر لا بد منه” بالنسبة للجميع.
مليارا دولار قمح من “الباشا الكبير”، على شوية مساعدات عسكرية، تكفي لستر الحال.
صحيح انه يبيع النفط والغاز المار من تحت العمارة ببلاش تقريبا للست هانم، إلا انه لا ينظر الى المال على انه يضيع من لقمة عيش أطفاله. لأنه يعرف أن زبائن الست “المهمين” يستطيعون أن “يحلوا العقد”. ويعرف أيضا أنهم يتسترون على صغائره ويتسامحون معه عليها، ويغضون الطرف عن سمسرته الخاصة في محيط العمارة. شوية تحويلات أموال، على شوية انتهاكات لحقوق الإنسان، على شوية أعمال تعذيب، والحال ماشي، و”الإشيا معدن، والحمد لله”.
وبوّاب العمارة لا يتركها لأي كان، إذا مرض أو مات. إذ يجب أن يكون هناك وريث من اختياره. ومن الأفضل أن يكون شابا نشيطا “مقطّع السمكة وذيلها” في أعمال السمسرة.
وبأوامر من “الست هانم” أو من “الباشا الكبير” يستطيع بوّاب العمارة المصري أن يسد الطرق على كل من يشاء، كما لو أنها معبر رفح.
وإذا وجد “الست هانم” “محتاسة” في شيء فانه يهب لمساعدتها. وإذا “تخانقت” مع جارها “الحاج متولي”، فان أول شيء يفكر فيه هو أن يعمل “وساطة” بينهما.
وكأي وسيط، فانه لا يتخذ موقفا، ولا ينحاز الى طرف. أولا، لانه بوّاب عمارة “ملوش في المشاكل”. وثانيا، لأن دوره هو أن يحفظ الأمن والسلام في أرجاء العمارة.
ولكنه يعرف من أين تؤكل الكتف. فـ”الست هانم” هي “الست هانم” في آخر المطاف. ولئن كان “الحاج متولي” ساكن قديم من سكّان العمارة، إلا انه “غلبان” و”هتيان” و”على قد حالو”.
وهو يعرف أن “الست هانم” تعتدي على جارها “الحاج متولي” وتحاصره وتضرب أطفاله، إلا أنها تدفع له فترضيه. فإذا وجدها وقعت في مشكلة من جراء أعمالها الطائشة، فانه لن يألو جهدا لإقناع الحاج بقبول الأمر على انه “قضاء وقدر” قائلا: “أدي الله، وأدي حكمتو”. (والله هو “الباشا الكبير”). فإذا بدا “الحاج متولي” غضبانا أو زعلانا، قال له “معليهش، إمسحها في دقني دي”.
وذقن البوّاب ممسحة دائمة للكثير من الجرائم.
الشيء الأهم هو انه لا يتخذ موقفا. يعرف الحق، كما يعرف الباطل. إلا أن وظيفته تملي عليه أن يكون بلا ضمير. وأقصى ما يستطيع هو أن يكون وس
يطا بين الحق والباطل.
هذه هي كل قصة الدور المصري في المنطقة. أو هذا هو كل ما بقي منه.
والمسألة مسألة أقدار. فهناك من خلقهم الله ليملكوا العمارة، وهناك من خلقهم الله ليقفوا على أبوابها.
مصر العظيمة لا تستحق ذلك. ولكن ما باليد حيلة. “عليه العوض، ومنه العوض”.