دموع ساخنة تنحدر بوجع على خدها، تهطل على قلبها الجريح فتزيد من خفقانه بعنف، تود لو أنها تنزع نبضاتها وتمنحها لقلب طفلها الصغير عمرو الذي يرقد على سرير المرض يحيط بجسده الهزيل الأسلاك والأجهزة من كل جانب.
“نبض قلبه في انخفاض”.. يخبرها الطبيب وهي تنحني لكي تقبل جبينه المغطى بالشاش، وبحروف تموت على شفتيها للاستفهام على حال طفلها قائلة: “هل سيبقى حيًّا؟.. أرجوك أخبرني أنه سيتحسن”، بينما يحاول الطبيب أن يمهد لها النبأ الحزين.
فعمرو الحلبي صاحب الخمسة أعوام، دخل مرحلة الخطر الشديد ولم يعد قلبه قادرا على الخفقان بعد إصابته بشظايا اخترقت دماغه وشلت حركته وأسكتت ضحكاته.
عمرو لن يكون الرقم الأول ولا الأخير في قائمة الأطفال الشهداء، فالرصاص الإسرائيلي المسكوب على لحم الأطفال الحي سيزيد من أعداد الراحلين والراقدين فى أسرة المرض.
ومنذ بدء حرب تكسير الإرادة على غزة الأسبوع الماضي، غادر أكثر من 70 طفلا الحياة وأصيب أكثر من 100 آخرين، أغلبهم في حالات حرجة، وهي أرقام لم تحرك ساكن منظمات حقوق الإنسان الغربية “ولا حتى منظمات حقوق الحيوان” كما صرح محمد نزال عضو المكتب السياسي لحركة حماس مساء السبت بعد لحظات قليلة من بدء إسرائيل عدوانها البري.
هلا حمدان (11 عاما)، وشقيقتها لمى (10 أعوام)، وشقيقهما اسماعيل (8 أعوام) باغتتهم أحد الصورايخ الغادرة من طائرات العدو فمزقت أجسادهم واغتالت طفولتهم، فالشقيقتان رحلتا على الفور في رابع أيام الحرب على غزة، بينما ظل أخوهما إسماعيل يصارع الموت لساعات، وظنت الأم أنها كفيلة بمنحه وقود الحياة.
وفي منزل آخر ليس ببعيد، تزيل أم نائل ياسين الشاش وتضع واحدا جديدا على رأس طفلها المصاب الذي يصرخ من شدة الألم فتبدأ في احتضانه والتخفيف عنه، ثم يهز البيت انفجار شديد، فيبدأ صغيرها الآخر فى البكاء، فتترك الأول وتذهب لمعانقة الثاني.
وتقول الأم بصوت متعب لإسلام أون لاين: “أصيب طفلي بجروح متوسطة إثر دخول شظايا الزجاج الذي تتطاير من نوافذ منزلنا بعد قصف الطائرات الإسرائيلية لمقر حكومي بجوارنا”.
وتضيف: “صغاري الآخرون يرتجفون خوفا، كلما سمعوا فقط صوت طائرة قادمة، وفي حال ألقت سمها (صواريخها) فبيتي يتحول إلى كتلة من الصراخ”.
أما عائلة عبد الرحمن فقد تركت طعامها وهرولت إلى الخارج بحثا عن مكان آمن بعد أن قصفت الطائرات الإسرائيلية الحي المجاور لمنزلهم مما أدى إلى خلع النوافذ والأبواب، وملء فطورهم الصباحي بالزجاج المتطاير والغبار الأسود الكثيف.
صغيرها تقي الدين صاحب الأعوام السبعة وباب بيتهم يطير، أخذ يصيح بخوف: “أمي.. أين سننام هذه الليلة”، فتضمه الأم إلى صدرها وتهمس بأذنه “اهدأ.. المهم أننا جميعا بخير”.
تقي الدين الذي لم يترك وجبة حتى يصافحها بنهم شديد، ساء نظامه الغذائي ولم يعد يأكل أي شيء، وقد اصفر وجهه وبدا شاحبا وكأن ثمة عشر سنوات أضيفت إلى عمره.
حرب مسعورة
من جانبه، قال طبيب الأطفال، إبراهيم أبو غزالة، بصوت غائب لإسلام أون لاين: “لا شيء في الدنيا أصعب من أن تخبر أما أن طفلها فارق الحياة”.
ويتنهد طويلا ثم ما يلبث أن يستدرك قائلا: “إنها حرب مسعورة، يقتلون الأطفال، ويشوهون أجسادهم، عشرة صغار رحلوا وأنا أتابع حالتهم الصحية (…) ما أقسى هذا الوجع”.
ويتسائل الطبيب بحرقة: “ماذا فعل لهم الرضيع ذو الأشهر الخمسة؟ وما ذنب طفلة في الرابع من عمرها أن تبقى طوال حياتها على كرسي متحرك، هل حملوا مدفعا أو أطلقوا صاروخا؟!”.
في نفس السياق، يقول مدير الإسعاف والطوارئ في وزارة الصحة بغزة، الدكتور معاوية حسنين، لإسلام أون لاين أن ثلث ضحايا المحرقة الجديدة فى قطاع غزة هم من الأطفال.
وأضاف بألم “الصورة بشعة للغاية (…) أطفال بلا رءوس، أجساد محروقة متفحمة، عشرات من الجرحى والشهداء”، ويتابع: ” لو أن طفلا إسرائيليا مات عن طريق الخطأ فستقوم الدنيا ولا تقعد، أما أطفال غزة فلا بواكي لهم”.
أمراض نفسية
وتسببت صورايخ الموت وأصوات الدمار وطائرات الرعب التى لا تغادر سماء غزة فى سوء التغذية للأطفال وماعادوا يعرفون للنوم والراحة طريقا، حيث ازدادت معدلات الخوف والقلق وينكمش الصغار فى أحضان أمهاتهم وآبائهم.
خليل السيد وأمام صراخ طفله الوحيد أحمد لجأ إلى حيلة تخفف من رعبه ولو قليلا، حيث يقول له كلما قصفت إحدى الطائرات هدفا “عصفورك في القفص سيخاف وسيذهب للطبيب إذا علم أنك خائف”.
يبكي أحمد للحظات وحين يتذكر عصفوره، يبدأ فى سكب دموع صامتة.
دارين في السادسة من عمرها تخبر أمها أنها خائفة على دميتها من القصف، أما شقيقها نزار فيبكي على بيت صديقه الذي دمرته طائرات الاحتلال، ويحاول عبثا الاتصال به للاطمئنان على حاله.
تفشي الأمراض
من جانبها، قالت جميعة حقوق الطفل الفلسطيني في بيان لـ”إسلام أون لاين” أنها تنظر ببالغ الخطورة لاستمرار التصعيد العسكري الإسرائيلي تجاه أطفال غزة والذي دخل الأسبوع الثاني.
واستنكرت الجمعية ما يتعرض له الصغار من حملة همجية دموية، موجهة نداء استغاثة إلى العالمين العربي والإسلامي، ومطالبة المؤسسات الحقوقية والإنسانية الدولية بالتدخل بشكل عاجل لإنقاذ طفولتهم من براثن الموت.
بدورها، حذرت مؤسسات صحية من تفشي الأمراض النفسية لدى الأطفال، وقالت إن القصف الدائم تسبب في قلة نوم الصغار وسوء التغذية والتبول اللارادي والقلق الدائم والصراخ والبكاء.
وطالب درداه الشاعر أستاذ علم النفس بجامعة الأقصى بغزة، في حديث مع إسلام أون لاين الأهالى بعدم مفارقة أطفالهم والبقاء إلى جوراهم دائما.
وناشدهم بإبعادهم قدر الإمكان عن شاشات التلفاز لعدم رؤية دماء الجثث والأشلاء، مشددا على أن هذا الوضع الجنوني تسبب للأطفال بأمراض نفسية مزمنة ودائمة.
وللتخفيف من هذا الوضع ولو قليلا قال: “الأهالي مطالبون بالتحلي بكثير من الشجاعة والقوة، لأن ضعفهم وارتباكهم سينعكس سلبا على أطفالهم… وعليهم بالرغم من الظروف القاسية أن يرسموا البسمة على وجوه أطفالهم من خلال اللعب معهم والترويح عنهم بطرفة أو نكتة”.
ويشكل الأطفال نسبة 60% من سكان قطاع غزة البالغ عددهم 1.5 مليون شخص، استشهد منهم منذ بداية انتفاضة الأقصى عام 2000 قرابة ألف طفل.
وبحسب إحصاءات حقوقية، يعاني 36% من هؤلاء الأطفال من أمراض صحية ونفسية خلفها الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من عام.
ويخشى حقوقيون وأطباء على صغار غزة مما ستخلفه هذه الحرب الدائرة رحاها بقسوة منذ الأسبوع الماضي والتي راح ضحيتها حتى كتابة هذه السطور نحو 457 شهيدا وأكثر من 2300 جريح.