إحدي الملاحظات المهمة التي يستخلصها المرء من ملابسات المذبحة الجارية في غزة، أن اللعب في الساحة السياسية العربية أصبح يتم علي المكشوف، فالإسرائيليون أصبحوا يعلنون أن ثمة تأييداً وتشجيعاً من بعض الأنظمة العربية للعملية التي قامت بها، ولا يترددون في إجراء اتصالات والقيام بزيارات في العلن مع بعض حلفائهم العرب ، قبل أيام أو ساعات من عمليتهم العسكرية في إيحاء للجميع يثبت التنسيق والتطابق في المواقف ووجهات النظر، وبعض رجال السياسة العرب أصبحوا لا يخفون مشاعرهم، حتي سمعنا أحدهم يقول بكل جرأة ما يفيد بأن فلسطيني غزة يستحقون المذبحة التي تعرضوا لها، لأن قياداتهم حذروا وأنذروا ولم يتجاوبوا مع النصائح التي أسديت لهم، والسيدة ليفني ـ وزيرة خارجية إسرائيل ـ لم تتردد في أن تعلن علي الملأ أن الدولة العبرية وبعض الدول العربية تقف في مربع واحد في مواجهة حماس وحزب الله وإيران.
موالاة العدو أصبح يتم الجهر بها في وسائل الإعلام، حتي بتنا نفاجأ بكتابات تنضح بتلك الموالاة في بعض الصحف المحترمة التي اعتدنا منها الرصانة والتعبير المحافظ والمسئول، بل قرأنا في بعض الصحف المحسوبة علي الحزب الحاكم أن إسرائيل بعد اتفاقيات السلام لم تعد عدواً للأمة العربية، وأن إيران هي العدو الآن، وبمناسبة الأطراف «المحافظة» فإن بعض الدول العربية التي اعتادت أن تتعامل بحساسية وحذر مع إسرائيل، وما برحت تردد علي ألسنة مسئوليها أنها ستكون آخر المطبعين، فوجئنا بها وقد تخلت عن ذلك الحذر، ولم تعد تكتفي بالاتصالات السرية مع العدو، وإنما دخلت في اللعب علي المكشوف من بابه الواسع، إذ مرة واحدة وجدنا قيادتها وقد ظهرت مع رئيس إسرائيل في لقاء رتب تحت غطاء مؤتمر دولي «للحوار» أقيم في نيويورك، وكان ذلك بداية للقاءات أخري تلاحقت في عدد من العواصم الأوروبية.
لم يقف الأمر عند ذلك الحد، وإنما أصبحت مقاومة الاحتلال جريمة وتهمة، تُسَب من خلال المنابر الإعلامية الرسمية ليل نهار، وأصبح الانحياز إلي المقاومة تأييداً للإرهاب ودعوة إلي التطرف وانطلاقاً من «أجندات» أجنبية، بالمقابل فإن المفرطين والمفاوضين والمستسلمين هم «المعتدلون» الذين يتصدرون الواجهات وتحتفي بهم وسائل الإعلام، دون أن يتساءل أحد عن أي «أجندة» ينحاز إليها هؤلاء.
في خطاب هذا الزمان أصبحت المقاومة هي المشكلة وليست الحل، لذلك فإن السباب والشتائم التي توجه إلي دعاة الممانعة أفراداً كانوا أو جماعات، لا يقصد بها سوي الموقف الرافض للتسليم، وكما مُنح ياسر عرفات جائزة نوبل لأنه اتفق مع اسحاق رابين، ثم جري حصاره وتسميمه وقتله لأنه لم يسلم بطلبات باراك، فإن الأسلوب ذاته جري تعميمه علي العالم العربي، فمن استسلم فاز بالرضا ومن امتنع حلت عليه اللعنة.
ذلك شديد الوضوح في الساحة الفلسطينية الآن، فالسلطة في رام الله مشمولة بالرضا والهبات والمساعدات لأنهم قبلوا بقواعد اللعبة، والمقاومون في غزة محاصرون ويراد لهم أن يلقوا مصير عرفات، حيث لا فرق بين القتل بالسم أو القتل أثناء المذبحة بصواريخ طائرات «F16».
من كان يتصور أن يشارك الطرف العربي في حصار غزة وتجويعها؟ ومن كان يصدق أن يهب بعض الناشطين الأوروبيين لإغاثة المحاصرين عبر البحر، في حين يغلق «الإخوة العرب» طريق البر، ولا يفتحون المعبر إلا بعد أن يتحول الأمر إلي فضيحة عالمية؟ من كان يصدق أن تتحرك القوافل من قلب القاهرة لإغاثة المحاصرين في غزة، ثم تفاجأ بأرتال الشرطة تقطع عليها الطريق، وتجبرها علي العودة من حيث أتت؟
ليس صحيحاً أن حماس هي الهدف، لأن المقاومة هي الهدف الحقيقي، بعدما أصبح الموقف واضحاً ومحسوماً لصالح التفريط في القضية وبيعها بأي ثمن، ومن يسبح ضد التيار يجب أن يسحق بكل قوة علنًا وفي وضح النهار، حتي يكون عبرة لغيره.
ذلك قليل من كثير في اللعب علي المكشوف مع الإسرائيليين، أما اللعب مع الأمريكيين فحدث فيه ولا حرج، والخوض فيه يحتاج إلي كتاب لا زاوية صباحية، ثم إنه حافل بالخطوط الحمراء والمعلومات الملغومة.