د.عزت السيد أحمد*
سأستعير البداية من مقال كتبته في أثناء عدوان تموز الصهيوني على لبنان عام 2006 تحت عنوان: إدانة الكاتيوشا والعقلية الغربيَّة؛ أولاد البشر وأولاد الكتاب” “.
في أثناء عدوان تموز الصهيوني عام2006م أجرى مراسل محطة فوكس نيوز مقابلة مع الرَّئيس اللبناني إميل لحود وكان اللقاء مركزاً على فرض اعتراف على الضَّحية بأنَّها هي الجلاَّد وأنَّ الجلاَّد هو الحمل الوديع، ولكن الرَّئيس اللبناني رفض ذلك مرَّاتٍ، فَرَاح الصحافيُّ يكرِّر عليه السُّؤال: “يعني أنَّك لا تريد أن تدين صواريخ الكاتيوشاا؟”، “يعني أنت ترفض إدانة صواريخ الكاتيوشا”… وظلَّ يكرر السؤال بطريقة استفزازية أغضبت الرئيس اللبناني ودفع للقول بوضوح: “هل تريد أن تضع الكلام في فمي؟”.
وكان الصَّحافي الصهيوني، على الأقلِّ بعقله، بكلِّ صفاقة في كلِّ مرَّةٍ يقول:
ـ “لقد رأيت الصَّواريخ تطال النِّساء والأطفال في كريات شمونة”، “لقد استهدفت صواريخ حزب الله المدنيين الإسرائيليين”.
على الرَّغْمِ من الوضوح الذي يفقأ عين الجاحد فإنَّ هذا الصحافي التَّافه لم ير كلَّ المدنيين الذي استهدفتهم مختلف الأسلحة الصهيونيَّة ورأى الاستهداف النَّادر للمدنيين الصَّهاينة بصواريخ حزب الله. وعلى الرَّغْمِ من أَنَّهُ لم يسقط طفلٌ بصواريخ حزب الله فيما سقط مئات الشُّهداء من الأطفال بالأسلحة الصهيونيَّة فإِنَّهُ يقلب الحقيقة ويرى أنَّ المقاومة اللبنانيَّة هي التي استهدفت الأطفال، ويريد من الضحية أن يرى هذه الحقيقة بالمقلوب مثله.
هذا الصحافي صورة من صور العقلية الغربيَّة في التعامل معنا نحن العرب، ولذلك ليس الموقف من كاتيوشا حزب الله هو الأول، إنه النسخة الكربونيَّة المتكررة من التعامل من قضايا أمتنا العَربيَّة. وقد تكرر مع القضية الفلسطينيَّة مئات المرات وليس العشرات.
منذ صباح يوم السبت 27 كانون الأول 2008م باشرت القوات الصهيونيَّة مجزرة في غزة كانت تعد لها علناً، وعلى علم العالم كله، منذ أسابيع. منذ أسابيع وهي تعلن أنَّهَا ستجتاح غزَّة، أي إنها سترتكب مجزرة كبيرة ليست صغيرة، أي أنَّها قصَّة مجزرةٍ معلنةٍ، ومع ذلك لم يتحرَّك أحدٌ في العالم، حَتَّى العرب، ولم يتخذ أحدٌ أيَّ إجراء، ولا تهديد ولا وَعِيْد…
وقعت المجزرة والعالم يتابع بصمت ورُبَّمَا بإعجاب وتقدير، الإعلام الغربي يتحدَّث عن حق الصَّهاينة في الدفاع عن أنفسهم. لقد طالب الفرنسيون والأمريكان منذ أيام بإدانة صواريخ القسَّام التي يعترف الكيان الصهيوني ذاته أنها بدائيَّة لا تفعل شيئاً، وهي منذ بدء إطلاقها لم تقتل شخصاً واحداً، اللهم إلا اليوم في الرَّد المكثَّف على المجزرة أدت هذه الصَّواريخ إلى قتل عدد من المستوطنين.
قتل بعض المستوطنين جاء في الرَّدِّ على المجزرة التي أدت إلى سقوط مئات الشهداء والجرحى” “. ومع ذلك نجد بداية أنَّ السُّلطة الفلسطينيَّة التي يفترض بها أن تكون هي المقاوم للاحتلال هي التي تدين صورايخ القسَّام، والدول العَربيَّة صامتة صمتاً مريباً… فماذا ننتظر من الغرب عامَّة وهو أصلاً لا يرى المجازر الصهيونيَّة ويرى الحجر الذي يطلقه الفلسطيني صاروخاً.
المجزرة أيُّ مجزرة بشعة، ولكن المجازر الصهيونيَّة عامَّة، ومنها مجزرة السبت الماضي، مجازر تنطوي على حقدٍ ووحشيَّة لا مثيل لها في تاريخ البشريَّة.
لقد اختار جيش الاحتلال الصهيوني ساعة الذروة لتنفيذ مجزرته البشعة، اختار ساعة عودة الطُّلاب من المدارس والنَّاس من أعمالهم وبدأ قصفه الصَّاروخي المكثَّف فقتل من قتل وجرح من جرح، وأكمل دائرة حقده البشع إذ انتظر حَتَّى تجمهر النَّاس في أماكن القصف وأعاد قصف الصَّواريخ والمتفجرات، التي زادت على 100 طن كما أعلنت وسائل إعلام الكيان الصهيوني ذاتها، على أماكن تجمهر النَّاس من أجل إنقاذ الجرحى والمصابين، وكرَّر الكيان الصهيوني سيرته.
سيقولون إنَّ مصر نددت وإنَّ الاتحاد الأوروبي دعا إلى وقف العد
وان ورُبَّمَا تنعقد قمَّة عربية، على غير العادة منذ عشرات السَّنين… أليس في هذا ردٌّ على المجزرة؟!
وان ورُبَّمَا تنعقد قمَّة عربية، على غير العادة منذ عشرات السَّنين… أليس في هذا ردٌّ على المجزرة؟!
لا أريد الحديث عن القمم العَربيَّة فالكلام فيها صار مكرراً كثيراً، إنها منذ نشأة الجامعة العَربيَّة من غير فعل ولا جدوى… فماذا يمكن أن تؤدي إليه القمَّة التي يمكن أن تنعقد من نتائج؟
لقد جربنا القمم العَربيَّة عشرات السنين ولم نفرح يوماً بنتيجة لهذه القمم. كل قراراتها المفرحة حبر على ورق، وكل ما يؤدي إلى مزيد التشرذم والانقسام ينفذ بسرعة لا تعدلها سرعة.
أمَّا التَّنديد مهما كانت شديداً، ومهما كانت الدولة التي تندد، فإنه ضحك على اللحى. تتسارع بعضٌ من الدُّول ومنها العَربيَّة إلى التَّنديد الخجل بجرائم الصهيونيَّة ومجازرها من دون أي إجراء عملي أو تنفيذي يمكن أن يؤدِّي إلى ردع العدوان أو معاقبة المعتدي الصهيوني، فيما تهب الدول العَربيَّة أولا ودول العالم كلها لمعاقبة الفلسطينيين كلَّما فكروا بوقف التنازلات للصهيونيَّة التي تحتل أرضهم.
ومع ذلك فإنَّ التَّنديد ذاته لم يصدر على لسان أيِّ دولة غربيَّة، وما التعليقات التي صدرت، وهي قليلة جدًّا، إلا تعليقات عامَّة لا تفيد التنديد، ولا تعني المطالبة بوقف المجزرة، ففرنسا تقول مثلاً على لسان رئيسها ساركوزي: “هناك استخدام غير متكافئ في القوة في غزة”. وكأَنَّهُ صحافي يصور الفرق بَيْنَ الأسلحة المستخدمة في المعركة، بل في المجزرة لأنه لا توجد معركة أصلاً، ولا يوجد عند الفلسطينيين العزل أي سلاح، فهم محاصرون منذ احتلال فلسطين وممنوعون من استيراد أيِّ نوع من أنواع الأسلحة، فيما الكيان الصهيوني يحوي ترسانة أسلحة تعد من الترسانات الأكبر في العالم.
أمَّا الولايات المتَّحدة فكانت صريحةً إذ أعلنت أنها تتفهم الإجراءات الإسرائيلية في غزة، تقول إجراءات وكأنها تتحدث عن قطع كهرباء أو إغلاق بعض أفران الخبز!!!
الأغرب من ذلك كله أن مصر الشقيقة لم تتخذ موقفا واضحا إذ ما فتئت تكرِّر: “مصر أطلقت التحذيرات ومن لا يتبع التحذيرات لا يلوم إلا نفسه”. وهذا التعبير بما يتضمنه من إشارات وقاحة ما بعدها وقاحة لأنه تشير إلى الضغوط المصرية على حماس التي تسيطر على غزة من أجل الاستسلام والتَّسليم للكيان الصهيوني، ولأن حماس رفضت شددت مصر الحصار ، وقد أكدت وسائل الإعلام أنَّ إسرائيل أطلعت شريكها عمر سليمان رئيس المخابرات المصرية على العملية، وكيف تطلعه على مثل هذا الأمر ما لم يكن شريكاً !.
مع كلِّ هذه الوضوح لهذه الحقائق، ومع كلِّ هذا التَّناقض الصَّارخ مع الواقع لم نجد من الغربيين من يعترض ليقول إنَّ الحقيقة عكس ذلك، لا من السِّياسيين ولا من صغار المسؤولين ولا من كبارهم، ولا من صغار المواطنين ولا من كبارهم… لأنَّ كل الرُّدود والتَّعليقات من مختلف دول العالم كانت بلا قيمة ولا قوة أعلن كلُّ المسؤولين الصهاينة على التتالي أنهم لن يوقفوا هذه العمليات ـ المجزرة ـ التي رُبَّما تسمرُّ أياماً ورُبَّمَا شهوراً.
قد يكون من الممكن، بعد إغماض العينين، ووضع غطاء سميك على العقل، أن نقول إنَّ الغرب عدوٌّ تاريخيٌّ للشَّرق، وله أيديولوجيَّته الخاصَّة في فهم المنطقة وما فيها من أحداث ووقائع. ولذلك يمكن تفهم الموقف الغربي مع ما فيه من جرح بالغ للضَّمير والعقل والمنطق. ولكن كيف يمكن أن نفهم الاصطفاف العربي المخزي وراء الكيان الصهيوني وعدم القيام بما يردع الكيان الصهيوني عن مجازره المتلاحقة ضدَّ الفلسطينيين خاصَّة والعرب عامَّة؟!
إذا كان تفهم عدم قيام العرب بما يردع الكيان الصهيوني عن مجازره أمرٌ يربك العقل إرباكاً كبيراً فكيف يمكننا أن نتفهَّم ما يقدمه بعض العرب، مهما بلغت خيانتهم من الشدة، ما يسوغ هذه المجازر الصهيونيَّة ضد الفلسطينيين ويدافع عنها؟!!
لا ترحمونا أيها الخونة العملاء.
لا ترحموا عقولنا.
ارحموا عقولكم أنتم فقط فإنَّكم دستم كلَّ منطق وعقل وضمير وقيم نبيلة، وأثخنتم الجراح في كلِّ ما يمتُّ إلى الإنسانيَّة بصلة.
- كاتب من مصر