جريمة، جبن، انحطاط، خيانة، عمالة، تواطؤ، عجز، بطولة، تضحيات، صمود.. كل هذا صحيح. ضع كل كلمة في المكان المناسب، وستجد أنها تطابق الواقع.
ويجب أن يكون من الواقع أيضا، أن المرء لا يخوض حربا من أجل أن يخسرها.
وحرب غزة، هي الاختبار الأخير ليس لمفهوم المقاومة (بمعناها الفلسطيني)، بل للقضية الفلسطينية برمتها.
هذا هو الهزيع الأخير. وهو قد يكون فرصة لمنعطف تاريخي حاسم و.. أخير لوضع نهاية للمأساة الفلسطينية، أو قد يكون الفصل الختامي لقضية سيجد الفلسطينيون أنفسهم، ومن خلفهم كل العرب، مضطرين الى قبول الهزيمة فيها مرة والى الأبد.
ووضع “نهاية للمأساة” قد يعني حلا عادلا وشاملا يُملي على إسرائيل قبول مقررات ما يسمى بـ”الشرعية الدولية”، ولكنه قد يعني بداية النهاية لوجود الكيان الصهيوني نفسه.
الأمر يعتمد عليك؛ على مدى شجاعتك؛ على ما إذا كنت جريئا الى حد الوقاحة. ثم على ما إذا كان استعدادُك للموت من اجل قضية عادلة استعدادا حقيقيا، لا مجرد إدعاء كاذب.
نعم، نعم، موازين القوى مختلةٌ تماما. ولكن هذه هي اللعبة في الأصل. لم تكن موازين القوى إلا مختلةً دائما. والمواجهة ضد الاحتلال، أي احتلال، هي مواجهةٌ مختلة الموازين على طول الخط. ولكن النصر حليفٌ للجريء، للشوكة التي لا تنكسر، للعين التي تقاوم المخرز.
وهذه هي المعركة الأخيرة.
لماذا؟
1ـ لأن إسرائيل تريد منها أن تقضي على حماس، وعلى كل تيار المقاومة الفلسطيني. هذا هو المعلن. وهذا هو المرغوب فيه.
2ـ لأن هذا هو الفصل الأخير في “المفاوضات” التي لم تحقق تقدما. والمطلوب منها أن تتقدم على جثث آخر المناوئين لـ”عملية السلام”.
3ـ لأن العرب في أعلى مستويات الانحطاط والفشل السياسي، مما يجعلهم “مؤهلين” للتوقيع على أي شيء، ولقبول أي “حل”.
4ـ لأن الأزمة الاقتصادية العالمية تتطلب منعطفات كبرى لتسهيل الخروج منها. و”الحل” على جثة غزة، هو أحد أبرز هذه المنعطفات.
5ـ لأن إسرائيل صارت ترى بوضوح، بعد حرب يوليو/تموز 2006، أنها لم تعد تستطيع العيش تحت التهديد.
6ـ لأن الفشل يعني انهيارا شاملا لأحد الطرفين.
المعركة بهذا المعنى هي معركة مصير، لا تسويات فيها ولا حلول وسط. الحلول الوسط تعني ضعفا. وإظهار الضعف أول الانهيار.
والمعركة صعبة على حماس وعلى كل تيار المقاومة الفلسطينية.
1ـ لأنها تقاتل في ظل حصار شامل.
2ـ لأنها لا تستطيع أن تنتظر عونا عسكريا من أي أحد. حتى الإغاثة المدنية تقررها إسرائيل.
3ـ لأن إسرائيل، بعد “تقرير فينوغراد”، لا تستطيع مواجهة تقرير آخر. وهو ما يعني أنها مستعدة لأن ترتكب مجزرة، ليست المجزرة الراهنة حيالها سوى مزحة.
4ـ لأن الصف الفلسطيني منشق على نفسه بسبب جسامة خيار المقاومة نفسه.
5ـ لأن المؤسسات الدولية من دون ضمير. وهي ستسارع الى الدعوة لفرض وقف لإطلاق النار، إذا شعرت أن إسرائيل بدأت تخسر ماديا أو معنويا، ولكنها ستماطل طالما كان الأمر مفيدا لإسرائيل.
6ـ لأن إسرائيل، إذا شعرت بالهزيمة، ستعمل على القيام بأعمال إبادة لم يسبق لكل الحروب أن شهدتها.
آخر شيء تستطيع أن تدّعيه حماس والفصائل الفلسطينية المشاركة لها في الحرب الراهنة، هي أنها لم تكن تعرف كل هذا.
وآخر شيء يتمناه الفلسطينيون هو أن يكتشفوا أن حماس وشركاءها، لم يكونوا مستعدين له.
وآخر شيء تحتاجه القضية الفلسطينية هو أن يتوقف المقاتلون من أجلها في منتصف الطريق.
حماس، كانت هي التي شرعت، وشرّعت، المقاومة بالانتحار. وبالتالي فحتى ولو كانت الحرب الراهنة تعني انتحارا ذاتيا، فمن الجدير بالمرء أن ينتحر، طالما أن الهزيمة ستعني انتحارا في جميع الأحوال.
أجدر بالمقاتل الجسور أن يُلقي بنفسه على سيفه، من أن يتحول الى مسخرة أمام شعبه وأمام التاريخ.
هذه حرب لا مخرج منها. ويجب ألا يكون هناك مخرج منها. فإما نصر، وإما شهادة. “إما حياةٌ تسر الصديق، وإما موتٌ يغيض العدا”.
وبما أن حماس اختارت، عيني عينك، أن تخوضها بتلك الصواريخ، فمن الأولى بها أن تخوضها حتى النهاية. لا حلول وسط، ولا وقف إطلاق نار، ولا وقفة تأمل في منتصف الطريق.
والنصر ممكن.
قد تبدو المواجهة مع أكبر قوة عسكرية في المنطقة حماقة خالصة، إلا أن كل الثورات المسلحة ضد الغزاة والطغاة كانت حماقة أيضا، ولكن لا مفر منها.
وإسرائيل قد تكون الأكثر وحشية في العالم بعد وحشية الإحتلال الأميركي للعراق، إلا أن وحشيتها (غير الجديدة، على أي حال) ليست مؤهلة لكسر الشوكة. كل وحشية الأميركيين ضد الفيتناميين لم تكن مبررا لوقف المقاومة. والنصر كان حليف الجريء على الموت، لا الجريء على القتل. هكذا كان الأمر دائما، وهكذا سيكون.
والنصر ممكن،..
1ـ لأن الدم الذي ستسفحه الوحشية الإسرائيلية، يمكن أن ينقلب عليها. التظاهرات والاحتجاجات التي دارت رحاها في كل أرجاء العالم تقول أن هذا الكيان صار مكشوفا أمام العالم كله. وزيادة الوحشية لن تزيد هذا الكيان إلا عزلة وفضيحة.
2ـ لأن المقاتل الفلسطيني، كما عرفته شوارع بيروت عام 1982، هو نفسه المقاتل الذي يمكن أن تعرفه شوارع غزة.
3ـ القصف الجوي لا يحسم معركة، ولا يكسر إرادة.
4ـ الإسرائيليون احرص على الحياة من ضحاياهم، ولديهم ما يخشون خسارته. الفلسطينيون ليس لديهم ما يخسرون.
5ـ مئات الآلاف من الفلسطينيين و
الفلسطينيات سيقاتلون، ولو بسكاكين المطبخ، إذا أظهر قادة المقاومة الفلسطينية عزما على الشهادة.
6ـ البطولة تستجلب البطولة. وذلك مثلما يستجلب الجبنُ جبناً، والمساومةُ ميلاً الى المزيد منها.
7ـ غزة ليست وحيدة إذا قاتلت. وبدلا من إسقاط حكومة حماس في غزة، ستسقط حكومة عباس في الضفة الغربية، في القتال ضد الاسرائيليين.
العرب الغاضبون على حكوماتهم يحتاجون مثالا للقتال الجسور هم أيضا. وكلما كان ذلك المثال صارخا، كلما كان أفضل. وعندما ترتعد الفرائص، سنرى أي منقلب ينقلبون.
ويهدد الزعماء الإسرائيليون باجتياح غزة. وهذه فرصة. وهي بالأحرى من أعظم فرص التاريخ، لوضع حد للمأساة.
فقولوا لهم، تعالوا يا وحوش. ادخلوا بدباباتكم لترتكبوا كل ما تشاؤون من المجازر.
قولوا لهم، تعالوا يا مجرمين. ستلقّنوننا من دروس القتل ما لم نعرف، وسنلقنكم من دروس الموت ما لم تعرفون.
اصرخوا في وجوههم، تعالوا يا فاشيست. إننا هنا لمنتحرون. تريدون محرقةً، وعلى محرقةٍ ستحصلون.
فهذا هو هزيع المأساة الأخير. ومن الأرحم، بعد 60 عاما من الآلام والمرارات الطويلة، أن يكون الأخير. ومن المفيد لكلينا معا أن يكون الأخير.
ما من أحد يعيش الى الأبد. حتى الرسول محمد (ص) مات.
فإما حياة بكرامة، وإما موت بشموخ.