في صغري، كنت أطرح الكثير من التساؤلات عند رؤيتي لقدوم أحد المهاجرين ،كيف كان يتلقاه أبناؤه وهم يحملون حقائبه ويطيرون فرحاً بقدومه، بل الجيران معهم وأهل الحي كلّهم ينتظرونه ويستبشرون بقدومه ،ويتسابقون لمعانقته ، وسرعان ماينقلب ذلك الفرح إلى وجوه عابسة وشفاه يابسة،والسبب هو أن الأبناء غير راضين بما أفرزته لهم الحقائبُ ، فيذهب الأب بعدها وتعود الأم وأولادها إلى حيث كانوا ،وقبل قدومه ثانية وثالثة يتكرر المشهد وترجع الوحشة وهكذا دواليك، وتبقى العلاقة تلك بين الأب المهاجر وأبنائه وحتى أقاربه بين الحقيقة والمجاز، حتى يحُط ّالأب المهاجر راحلته ويستقر نهائيا من غير عودة إلى الخارج ، فتصبح الحقيقة ساطعة أمام الكل كالشمس في رابعة النهار،وتتضح العلاقة الصحيحة ويتغير الحب العابر .
كثير من العائلات بعد عودة الأب من هجرته دُمّرت، بسبب الطمع والجشع الذي أعمى قلوب الناس ،وكثير من الأرحام قُطعت ،وكثير من الأرزاق أتلفت ، خاصة بعد وفاة الأب المهاجر الذي قضى طيلة عمره وهو غريب ،غريب في وطنه وغريب في أوطان الناس ،لايعرف عن العائلة إلاّ الصغيرة، فيأتي ليقضي شهر العطلة وكأنه شهر العسل بالنسبة للعريس ،لكن مع الأسف تتحول الشهور بعد رحيله إلى بصل ،والمحزن أن هؤلاء الغرباء الذين عانوا الأمرّين، كثير منهم تركوا قصورا لم يبيتوا فيها ليلة واحدة ولم ينعموا بالوقت الذي كانوا يحلمون به ولا بالتعرف عن قرب على سيرة أولادهم ومحيطهم …
مقدمة أرى أنه لابد منها هذه المرة لعنوان مقالي ،الذي أريد من خلاله أن أتحدث بكل صراحة عن حال الرئيس الجزائري المعين بوتفليقة ،مع شعبه ، هذا الرئيس الذي ظل غائبا طوال سنين يعيش في المهجر سواء أكانت هجرته عن إختيار أم قصرا ، وعند عودته إلى الوطن وتعيينه في قصر المرادية ،كانت فئات من الشعب تنتظره ، كالأبناء مع أبيهم المهاجر الذي سبق وأن شرحنا ،وما إن استقر بوتفليقة وأفرغ حقائبه طوال العشر سنوات التي قضاها في الحكم عرف الكثيرون أنهم أخطأوا الطريق ،فالكثير ممّن كانوا يتبركون به أصبحوا عندما يرون صورته يقومون بالتعوذ منها بعدما سئموا من وعوده .
والمحير أن ذهابه يشبه ذهاب المهاجر الذي يترك من وراءه أبناء يتناحرون على التركة، ولاأبالغ إن قلت أن أغلب الرؤساء مع شعوبهم تشبه حالتهم حالة المهاجر مع أولاده ،والوضع الذي يتركونه هو نفس الوضع تقريبا الذي يتركه الرؤساء بعد موتهم أو إقالتهم ،ولاأقول إستقالتهم ،لأن ماشهدنا عنه خلال السنين التي قضيناها هو أن الرئيس لايتنحى إلاّ بالموت أو بالإنقلالب.