مسامير وأزاهير ( 39 ) … يوم كان ( عندي بندقية ) دقت حينها ( أجراس العودة )!!!.
حين غـَنـّت أم كلثوم يوماً ( أصبح عندي الآن بندقية ) جاء الرد حينها بصوت فيروز ( أجراس العودة فلتقرع) ، العلاقة منطقية ومترابطة بلا شك بين البندقية وبين أجراس العودة حين تقرع، وما أن ظهرت البندقية ودقت لها مهللة مكبرة أجراس العودة حتى تأجج الشباب ناراً وتحفزاً وتزاحموا إصطفافاً وتدافعاً في صفوف الجهاد بانتظار عودة صلاح الدين الأيوبي ثانية أو من ينوب عنه لقيادتهم نحو فلسطين وإرجاع الحق إلى أهله.
وحينما غنت أم كلثوم ( أصبح عندي الآن بندقية ) ثم أعقبها رنين أجراس العودة مكبراً حتى ردد الشيوخ ملء حناجرهم ( أنا لا أنساكِ فلسطين … ويشدّ يشدّ بي البعد ) فيما انهمكت أعينهم تبحث في أغراضهم العتيقة عن مفاتيح دورهم التي تركوها مجبرين في القدس … جنين … يافا وعكا… ترقباً وانتظاراً لحلم العودة.
وانطلق الرجال بصولتهم وتسللوا عبر نهر الأردن مرددين بصوت واحد ( نمحو بالنار العار ) فيما ودعتهم أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم بالزغاريد ونثر الورد فوق رؤوسهم تارة وبالدعاء لهم بالنصر أو الشهادة تارة أخرى، وانطلقت أهازيج الثورة والعودة من حناجر الشيوخ وهم يلوحون بمفاتيح بيوتهم العتيقة التي هجروها عنوة وقسراً، وتحرق الصبية شوقاً لنيل شرف الالتحاق برجال الصولة وغلت الدماء في شرايينهم وبكوا لصغر سنهم ، ندبوا حظهم العاثر لفرق سنين العمر والتجربة فمنعت عنهم اللحاق بآبائهم وإخوتهم.
ومرت الأيام … بين فرح انطلاق الثورة والكفاح المسلح وبين حلم النصر وقرب العودة الذي أزف ولاحت تباشيره ، تساقط خلالها الشهداء على ثرى فلسطين فيما كان حلم العودة مرتسماً مطبوعاً في حدقات عيونهم، ومرت الأشهر بعنفوان الثورة واتساع الكفاح وتنادي الرجال على بعضهم مؤازرة وسنداً ، واستمرت خلالها جحافل العطاء والجهاد تترى صوب فلسطين، وتزايدت مواكب أعراس الشهداء فيما راحت زغاريد النسوة لهذه المواكب تسمع عالياً فتشق عنان السماء زهواً وانتشاءاً.
وفجأة ودونما سابق إنذار … جاء من يبشرنا بطريق عودة أخر ، لا دماً … لا جهداً مقاوماً … لا مواكب شهداء بعد اليوم، فكانت قبلة الانظار لتحقيق حلم طريق العودة الجديد مدينة ( أوسلو ) ، فتراكض من تراكض صوبها ساعياً إليها، فجلسوا وتفاهموا، ثم وقـّـعوا وبصموا… وخـَفـَتَ فجأة صوت أم كلثوم فما عاد يسمع من جديد مستنهضاً همة الغيارى للجهاد ، فيما راحت فيروز تغط بسبات طويل تنتظر وتمني النفس بالمعطيات والنتائج، فطال الانتظار، وتبخر الأمل وتشتت الحلم ، وتكشفت حقيقة حلم العودة الآتي برداء أوسلو، فإذا بالمشهد الجديد وتداعياته واستحقاقاته … بندقية تركن على الرف… وأصبع كان يضغط على الزناد قد قطع … وأضغاث أحلام عودة!!!.
ودب اليأس في الرجال من جديد.
وتململ الشيوخ وامتعضوا.
وانطفأت زغاريد النسوة.
وخاب الرجاء وأطبق الصمت.
تغير المشهد تماماً حين تبخرت الآمال وتطايرت الأحلام الوردية ، فقد كانت ( قبلة أوسلو ) وهماً وسراباً في صيف قائظ لاهب، ثم اتضحت الصورة أكثر وبانت معالمها ببعديها الدولي والإقليمي أولاً والعربي والفلسطيني ثانياً ، فالأمر كله لا يعدو عن :
أولاً … مكر وتنصل صهيوني عن وعود بذلت وعهود وقع عليها يسانده تدليس دولي تمثل بنفاق وكيل أميركي بمكيالين، فازداد العدو غطرسة وغياً تشبثاً بخياراته وأجندته.
ثانياً … يقابله سوء تقدير فلسطيني لحقيقة ما كان قد بيت لنا، يؤازره غباء وتقصير عربيين كان من نتائجه وتداعياته استمرار الانبطاح أمام العدو من خلال مبادرة عربية كانت أشبه بالتسول والتوسل لكسب رضا وقبول الصهاينة بعملية مقايضة للأرض مقابل السلام ، فكان تطبيعاً عربياً مجانياً دون سلام بالأفق … دون عودة لأرض أو جزء من أرض … فيما رافق ذاك العهر السياسي العربي الفلسطيني كله تمزق في المشهد الفلسطيني.
حلم العودة ضاع … والدولة الفلسطينية أختزلت ، فـ ( ما تبقى ) من فلسطين صار شطرين متناحرين متحاربين متضادين وقف بينهما شعب يتأوه لحلم عودة تبخر … يتألم لبندقية ركنت جانباً … يتحسر لقوافل شهداء زفوا إلى الله فيما صار رجال الصولة مطاردين ملاحقين في كلا الشطرين المتناحرين ، فهذا يمسك برجال صولة ذاك فكان منهم ( رجب عوني توفيق الشريف )، وذاك يرد الصاع صاعاً أو أكثر فيُُضَيـّق الخناق على رجال صولة هذا فكان منهم ( أبو علي مسعود )، فإذا بشقة الخلاف تتسع… وإذا بقضية فلسطين تختزل إلى مساومات وتنازلات تمثلت بفتات مفاوضات تسوية من جانب وتهدئة خجلى لا جدوى منها من جانب آخر ، فيما راح العدو يمد جذوره من تحت أقدامنا جميعاً!!!.
مشهدنا الفلسطيني صار يلخص هكذا … متاهات تسوية دخلناها، كللت وجللت ومهدت بمفاوضات عبثية فاثمرت عن استحقاقات تحريم الجهاد وتحجيم قدرات وتكميم أفواه من يدعو وينادي ويسعى لها ، فأثبتت الأيام أنها كالحرث في البحر وأنها كانت مراوحة في نفس المربع لا أكثر من جانب ، ومن ج
انب آخر إرجاء وتعطيل للفعل المقاوم تـُبحث هناك في الطرف الآخر من المشهد.
انب آخر إرجاء وتعطيل للفعل المقاوم تـُبحث هناك في الطرف الآخر من المشهد.
مشهدنا المأساوي أمسى هكذا … حصار مقيت يفرض، قتل بطيء للناس في غزة يجري، تعطيل وإرجاء للمقاومة في غزة إلى حين، تحجيم وإلغاء للمقاومة في الضفة صار طابعاً مميزاً، كل ذاك يجري في شطري ما تبقى من الوطن السليب فيما أشقاء ( العروبة ) لاهون متفرجون عابثون ، يقترحون ويدعون لوأد الفتنة فيما سكانينهم مشرعة ( خفية وعلناً ) تذبح القضية من الوريد حتى الوريد، فالتطبيع العربي مستمر، والانبطاح العربي متوال، والحصار يستمر ويفتك، ومنع قوافل الغذاء والدواء يتواصل، فيما شارف المسجد الأقصى ليكون أثراً بعد عين، وفوق هذا وذاك … حلم العودة صار بعيداً.
سمعنا وقرأنا في تجارب شعوب الأرض من أن المقاومة دائماً رديف وصنو للاحتلال، درسنا وتعلمنا منذ الصغر أن السلاح يرفع دائماً في ظل الاحتلال ولا يركن على الرف إلا عند تحقيق النصر والأحلام، فما بالي لا أراه في ظل احتلال أرضي وانتهاك عرضي ومقدساتي !!؟، ولـِمَ ما عدت أسمع أم كلثوم تصدح شامخة كما عهدناها وهي تزف إلينا خبر امتلاكنا للبندقية!!؟، ولـِمَ لم تعد يدا فيروز تقرع أجراس العودة بين الفينة والأخرى!!؟، لا أدري حقيقة ما أرى … فكل المؤشرات تؤكد أن البندقية قد صودرت وأتلفت وأن العودة باتت أضغاث أحلام، ورغم ذاك كله وما يجري على أيدي هؤلاء فإننا نسمعهم يرددون لفيروز مقطعها ( أنا لا أنساكِ فلسطين ، ويشدّ يشدّ بي البعد ) متجاهلين أنهم قتلوا فلسطين … ذبحوها من الوريد حتى الوريد!!!.
فسبحان الله كم منا على نهج النفاق سائرون!!!.
سماك برهان الدين العبوشي
عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب