ربما يتوهم قاضي التحقيق الاخواني، أنه لم يتبق سوى عامين أو ثلاثة، من برنامجه على شاشة “الجزيرة” لكي يكون قادراً على وشوشة حاخام التاريخ، وطمأنته لكي ينام قرير العين: لقد أكملت لكم الشهود والشهادات، وأتممت عليكم نعمة الشرح المضاد، ولم يعُد هناك رمز للعرب، ولا تجربة، ولا فكرة تقترب من معاني الحرية، وتقترب من المقاومة، وشرف العمل الوطني والقومي، الا وتحولت الى نُثار من أقاصيص سخيفة، لا ينبعي أن تتكرر!
فان حدثت ثورة عربية، ولو كانت ضرورية، بمنطق التاريخ، وبحكم وقائع جعلتها بديلاً وحيداً؛ فان محقق الجزيرة، يتكفل بالظهور بكامل زينته، مع سمات وعبارات اسلاموية، وحاجبين قادرين على المناورة؛ لكي يستجوب شاهداً يروي له، كيف أن فلاناً ـ مثلاً ـ تشاجر مع زوجته، لأنها نسيت رش الملح على طبخة الملوخية، وماذا جاء في العراك من هتك لأسرار تقلب رواية النضال على فمها، وكيف تمردت المستورة على محاولات زوجها مضاجعتها بالمقلوب، فتذهب الذهنية العربية، في اتجاه السخيف والشاذ من الحكايات!
* * *
في قصة قيام ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 كضرورة تاريخية واستحقاق طبيعي للشعب المصري، تركزت السلطة في يد رجل أول، هو قائدها الفعلي، الذي آلت اليه الأمور مثلما آلت لعشرات من القادة الأحرار في بلدان العالم الثالث في زمنه. وباعتبار أن الرجل لم يغب عن الوجدان، بعد 38 عاماً من اهالة التراب على قبره، بينما يغيب المتلاعبون بالحواجب، عن الأذهان، بعد ساعة من اهالة التراب على قبر كُلٍ منهم؛ فان محقق “الجزيرة” لا يكف عن استدعاء الشهود، لكي يفصحوا عن أسرار أي شيء في حجم طبخة ملوخية. فقد جاء محقق الاخوان، بمن ينطق بعبارات من شاكلة الاستفهام التقريري الذي جعلته “الجزيرة” عنوان عناوين الحلقة المقبلة: ما هي حكاية تهريب المخدرات في الحقائب الديبلوماسية، وكيف حصل المهربون على الترقيات؟! ويستدرك الواهم انه نجم التحقيق في العصر، مُعرباً ـ دون أن يدري ـ عن انزعاجه من رأي الناس في الثورة: أيوه أكمل يا سيادة اللواء، عشان الناس تعرف الأمور كانت ماشيه ازاي!
في هذه الاشارة الأخيرة، لا تكترث محطة الجزيرة، بخروج محقق العصر المضاد، عن القواعد المهنية للعمل، عندما لا يكتم تبنيه لرواية تقول ان أمور بلاده، في عهد جمال عبد الناصر، كانت تمشي وفق منهج تلخصه حقيبة مخدرات يُكافأ حاملها. أما الشاهد الذي انتهت تجربته في العمل، منذ أيلول 1954 عندما كان مديراً لمكتب محمد نجيب؛ فلم يكن قادراً على التحدث بمنطق التوجهات العامة، لما حدث بعد ذلك، من حيثيات للتنمية وبناء القدرات، والدور الاقليمي لبلاده، ومواجهة التحديات الخارجية وانجاز الاستقلال الوطني المرتكز الى مبدأ مقاومة الأحلاف الاستعمارية، ومعارك السياسة والأمن القومي، ومواجهة العدوان بروح التحدي واستجماع الارادة وعناصر المقاومة، وصناعات الكهرباء والحديد والأدوية والمواصلات والري والتعليم وغير ذلك من المآثر!
* * *
وعلى الرغم من شغف المحقق، بالتافه من الحكايات، فانه لم يأت بشاهد مضاد، كان مع الاخوان، ثم انقلب عليها، من الكثيرين الذين وردت أسماؤهم في رسائل دكتوراة عن تاريخ الجماعة، لكي يروي للناس، محزون حكايات الصراع الداخلي في “الجماعة” وانقلاب “الأقاليم” على “المرشدية العامة” وتحالف هؤلاء الأصوليين مع الخط السياسي العربي المعادي لحركة التحرر ومناهضة الاستعمار، وأقاصيص لا تخلو من بصبصة وتحرش ونميمة في الشأن الجنسي، طالت قياديين من الجماعة، وأُخذت من أفواه شهود، على مسمع من باحثين عرب وألمان وفرنسيين ومستعربين أميركيين وغيرهم، ولا نملك التنويه اليها، بالاسم والعنوان، لأننا لا نتلاعب بحواجبنا ولا نهزأ بُحرمة قبور الراحلين!
* * *
محقق العصر والجزيرة، يؤدي دوراً أقل ما يُوصف بالمريب.
فهو يريد من الناس أن تصدق، ان انزعاجه مما توافر لجمال عبد الناصر من صلابة الموقف القومي العام، في معارك الحرية وقضاياها، انما هو لصالح موقف أصلب، وأكثر صدقية، تحمل لواءه الجزيرة باللوغو الأزرق المذهب وتحت عباءتها الاخوان بالأخضر الباسق.
ومن أين؟ من قَطَر!