قبل حوالي نصف قرن، اضطرت الشرطة الدينية السعودية إلى السماح، بشروط، باستعمال الدراجة – أو “حمار إبليس” – للسعوديين آنذاك، وها هي اليوم من جديد في حرب ضد السينما وتشن معركة … “فاشلة مسبقا”، حسب اللبراليين.
انطلقت الحرب الجديدة بعد عرض الفيلم السعودي “مناحي”، الذي أنتجته مجموعة “روتانا”، شركة الإنتاج الموسيقي والسينماتوغرافي التابعة للأمير والملياردير الوليد بن طلال، في جدة والطائف، قرب مكة.
ويعتبر هذا العرض الذي صادف الاحتفال بعيد الأضحى المبارك، الأول من نوعه منذ نهاية السبعينات عندما قامت “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” ذات النفوذ الكبير والمكلفة بفرض تطبيق الشريعة الإسلامية، بمنع أي عرض عمومي للأفلام.
لقد جلب عرض هذا الفيلم طيلة تسعة أيام أكثر من 20 الف هاوي سينما، حوالي نصفهم من النساء.
وقد سهرت “استديوهات روتانا”، حرصا منها على عدم تنفير التيار المحافظ، على فصل الجنسين في قاعتي عرض (في مركز الملك عبد العزيز الثقافي في أبرق الرغامة بجدة وقاعة الفخامة في برج قلب الطائف) نظرا لمنع قاعات السينما في المملكة المحافظة .
ويقوم بتمثيل دور “مناحي”، وهو بدوي ساذج يواجه المجتمع العصري، الممثل السعودي فايز المالكي، المعروف لدى الجمهور عبر الشاشة الصغيرة. كما يُعرض الفيلم الذي تشارك في بطولته الممثلة السورية منى واصف، في نفس الوقت بمصر والكويت وقطر والبحرين . وسبق لفيلم “مناحي” أن عرض في جنيف وباريس.
وفي هذه المرة، شهد السعوديون الفلم على أرضهم و لم يسلكوا جسر الملك فهد للتوجه إلى البحرين من أجل مشاهدة الفيلم، كما حدث في سنة 2006 بالنسبة لفيلم “كيف الحال؟” الذي أنتجته مجموعة الوليد، ابن أخ العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز.
“مناحي” يثير استياء رئيس الشرطة الدينية
“كلنا يعلم أن السينما شر وفيها مفسدة، ونحن نرفض هذا الشر”، هذا ما انفجر به رئيس الهيئة، الشيخ إبراهيم الغيث، خلال محاضرة بتاريخ 19 ديسمبر/كانون الاول في الرياض، مؤكدا أنه “سمع عن عرض لفيلم في جدة”، وهي مدينة تحظى بتفتح لا مثيل له في باقي أنحاء المملكة.
و أضاف الشيخ الغيث غاضبا “هناك حفنة من الصحفيين سخروا أقلامهم للنيل من الهيئة”، عندما أجاب على صحفي كان يسأله عن “إصرار رجال الحسبة (أو “المطاوعة”، افراد الشرطة الدينية) على عدم الابتسامة للمواطنين”.
وقال الشيخ بهذا الصدد، أنه يطالب أعضاء الهيئة بالابتسامة، واصفا منتقدي الهيئة بـ”الحاقدين ولا يعلمون حقيقة ما يحدث”.
إن حربا خفيّة قائمة بين الهيئة الدينية والتيار الليبرالي الذي يضم مثقفين وصحفيين ورجال أعمال.
معركة فاشلة مسبقا
لقد أثارت تصريحات الشيخ الغيث التي نقلتها الصحف السعودية غداة المحاضرة، جدلا حادا بين المحافظين الذين يعتبرون السينما “تعبيرا فنيا غربيا فاسقا” و”الليبراليين” الذين يرون بأن عرض “مناحي” يعلن عن نهاية “الممنوع” الذي يثقل على السينما، كما كان الحال قبل ذلك بالنسبة للتلفزيون الفضائي.
يقول سلطان، أحد القراء المؤيدين للعلامة الديني “الشيخ على حق”، مضيفا “إن الليبراليين يريدون السينما لنشر ما عجزوا عنه من رذائل في التلفزيون”.
ولكن منتقدي الشيخ كانوا أكثر شدة. فيقول سمير مثلا “في الماضي قالوا أن الدراجة كانت حصان إبليس، من اختراع الشيطان، وانتهى الأمر بالقبول، كما قبلوا بعد ذلك بالسيارة، والراديو، والتلفزيون، والهاتف النقال”.
“حمار إبليس”
قبل أكثر من نصف قرن، كان السعوديون يحتاجون إلى رخصة، تسلمها الهيئة، لاستعمال الدراجة التي كانت تعتبر آنذاك اختراعا شيطانيا، حسبما كشفته في شهر أكتوبر/تشرين الاول المنصرم صحيفة “الرياض”.
كان يجب على السعودي قبل أن يستعمل الدراجة أن يوفر شروطا صارمة من بينها الالتزام أمام رئيس البلدية، والموثقين، والشهود، ورئيس القبيلة، بعدم استعمال دراجته إلا في حالة “الضرورة” وللتنقل فقط بين بيته ومكان عمله.
ويقول سامي من جهته “هؤلاء المنافقون يرفضون كل ما هو حديث، وهم أول من يتمتع به. الشعب يريد الترفيه يكفي الكبت”!
السينما… التلفزيون، نفس الشيء
“يا سادة، ويا علماء، ويا شيوخ، هل فتوى تحريم السينما تنطبق على التلفزيون والانترنت والجوال؟ إذا كانت الإجابة نعم فهلموا بنا نحمل حقائبنا ونعود أدراجنا إلى ما قبل التاريخ… فنحن كلنا فاسدون”! كما كتب محمد الفهيد في “الوطن”، الصحيفة التي كانت في الماضي ضحية مواجهة بين المحافظين والليبراليين.
كما تساءل يوم السبت محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، كاتب وصحافي ليبرالي وأحد أكبر منتقدي التيار الديني الصارم، في مقال بصحيفة “الجزيرة” قائلا “ما هو الفرق فعلا بين السينما والتلفزيون”؟ مضيفا أن “السينما شاشة تلفزيون ضخمة في صالات عرض مُجهزة، ومريحة، ليس أكثر. الذي يرفضها لا يمكن أن يكون منطقيا إلا إذا رفض في نفس السياق التلفزيون”.
وأضاف الصحفي أن “هؤلاء الممانعين هم نفس الفئة التي تعودنا منها دائما أن ترفض أي جديد متذرعة في البداية بذرائع واهية، ومع الزمن، وكما هي العادة، يتعودون، وتنتهي ممانعاتهم إلى تاريخ سيقرؤه أبناؤنا وأحفادنا يوما ويتندرون عليه. والأمثلة ماثلة للعيان، يمتلئ بها تاريخنا، وما يزال يئن منها حاضرنا”، في تلميح إلى منع المرأة من سياقه سيارة.
رئيس الهيئة يتراجع
تراجع الشيخ الغيث يوم الأحد، حسبما نقلته الصحافة المحلية، مؤكدا أنه لا يرفض السينما… لكن بشروط.
فقد صرح الشيخ الغيث للصحفيين بعد لقاء مع الشيخ صالح الحصين، رئيس “مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني”، قائلا “لا نرفض إقامة قاعات سينما… شرط أن يتم عرض أفلام جيّدة لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية”.
وأضاف الغيث “نحن لم نقل أننا نرفض السينما ولكنني أوضحت أنه لم تتم استشارتنا في عدد من المناسبات التي كان طابعها سينمائياً، وأنا أقول أن السينما قد يعرض فيها الخير ولكننا نرفض استخدامها فيما يفسد. وهذا ما قلته حين سألت عنها. ونعلم أن هناك فتاوى في تحريمها سبق إصدارها من قبل علمائنا في المملكة”.
ومنذ تصريح الشيخ الغيث إلى اليوم لم تصدر من المفتي العام للمملكة أو من هيئة كبار العلماء أية فتوى بالسماح بالعروض العمومية للأفلام في قاعات السينما بالمملكة.
وقام الشيخ الغيث، الذي له رتبة وزير، بالتوقيع مع الشيخ الحصين على مذكرة تفاهم لتنمية لغة وثقافة الحوار بين منسوبي الهيئة أنفسهم وبينهم وبين المجتمع (المواطنين والصحفيين والدبلوماسيين) حسب الصحافة.
وتعتبر الهيئة منذ عدة سنوات موضوع انتقادات شديدة فيما ي
خص الطرق العنيفة التي يستعملها بعض أعضائها، من قبل منظمات إنسانية وإصلاحيين سعوديين يعتبرون أن هذه الهيئة عائق أمام كل تفتح في المملكة، خاصة منذ وصول الملك عبد الله، وهو مدافع شديد للحوار، إلى الحكم في شهر أغسطس/اب 2005.
خص الطرق العنيفة التي يستعملها بعض أعضائها، من قبل منظمات إنسانية وإصلاحيين سعوديين يعتبرون أن هذه الهيئة عائق أمام كل تفتح في المملكة، خاصة منذ وصول الملك عبد الله، وهو مدافع شديد للحوار، إلى الحكم في شهر أغسطس/اب 2005.
حرب مواقف
كتب بندر السليمان، على الموقع الإلكتروني “السياسي” أن “الصراع على دخول السينما في السعودية يبدو صراعا من أعلى وليس من أسفل”.
كما أوضح أن “ثقافة السينما ازدهرت مع دخول القنوات الفضائية المتخصصة. فالبحرين (وكذلك دبي) تستقبل ملايين السعوديين في كل عام ليحضروا أحدث الأفلام الجديدة. فالمجتمع السعودي قد حسم تقريبا هذا الخلاف”.
واختتم المحلل مقاله قائلا “فالتمسك بالمواقف الرافضة للسينما هو موقف يدخل في معركة الصراع على المواقع. يخشى رجال الدين أن يقدموا تنازلا يعقبه مزيد من التنازلات التي تنتهي بطردهم تماما من اللعبة”.
من جهته يقول خالد، أحد مستخدمي الانترنت “إن اللبراليين يتحاشون إظهار نشوة الانتصار حتى لا يستفزون الهيئة الدينية”.
ويتساءل خالد “نريد الوصول إلى القمر لكن تحت ضوابطنا الشرعية. فما المانع؟.
اليوم، لا حاجة إلى دور للسينما
أما هاني الظاهري، الكاتب الصحفي، فله تساءل من نوع آخر: “لماذا تطالبون بالسينما؟”
يقول الظاهري في صحيفة “الإقتصادية”: “كلما هدأ النقاش وخف الجدل في الوسط الإعلامي السعودي عن إمكانية افتتاح دور للسينما في السعودية، عاد وانبعث من جديد بشكلٍ يوحي بأن هذه السينما مطلب أساسي للناس وأن مشاكلهم انتهت بأجمعها ولم يتبق إلا قضية الترفيه!”.
ويضيف الكاتب: “اليوم، يمكنك أن نشاهد أحدث الأفلام السينمائية وأنت مستلقٍ على أريكتك عبر جهاز الـ DVD دون الحاجة إلى دفع التذاكر ومزاحمة الناس والإزعاج المصاحب لهذه العملية”.
حبيب طرابلسي