زكريا النوايسة
ليس سهلا أن تدخل الى عالم شاعر كعرار ، وإن رضيت بالمجازفة فعليك أن تعد عدتك جيدا وتنقب في هذا العالم برويـة وتبحث في جزئياتـه كما تبحث في كلياته لأن ظاهـرة كعرارلا يمكن الاكتفاء بدراسـة جوانب محددة منها واغفال الجوانب التي يرى البعض أنها لا تشير لشيء ذي أهمية ، فهذه الشخصيـة لا يمكن فك رمـوزها ، الا من خلال الايغال بعمق وسبـْرِغورها على قاعـدة أن الشخصي في حياة عرار كان جزءا من الحالة الابداعية التي جعلت منه شاعرا مجيدا يقرن بكبار شعراء العربية ، فضلا عن كونه شاعر الأردن الأميز.
قـالوا: لشعـرك عشاق بودهـم أن يجمعوا بعضه في شبـه ديوان
فقلت: شعـري أشـلاء مبعثـرة كأنـها عمـري في كـل ميـدان
ويوم يأزف ميعـاد النشـور وما يقضي به البعث من سـر وإعلان
لسوف يعلم حتى الصم من غرري آيـات تلفظهـا أفـواه خرسـان
كتب عرار في مختلف الموضوعات الاجتماعية والسياسيـة ،ويستشف من شعره رفضه وثورته على كثير من تفاصيل واقعه ، وإعلان العصيان على كل التقاليد والأعراف التي تحد من حريته ونزوع روحه القلقة الى الانطلاق الـى عوالم لا تعرف الحدود.
أأسجن الناس إرضـاء لخاطركم وخشية العزل من ذ المنصب الدون؟
أم رغبة في تقاضي راتب ضربوا نقوده مـن دمــاء في شرايينـي؟
هذي الوظيفـة إن كانت وجائبها وقفـا عليكـم ، فعنها الله يغنينـي
ويبدو عرار لغير الدارسين لشعره أنه ليس إلا شاعرا خمريا (بوهيميا) آثـر الانسحاب من مجتمعه إلى مجتمع يشكله مزاجه الساخط فوجـد ذلك في حيـاة النور ، وبالرغم من حميمية العلاقة بين عرار وبين أصدقائـه ( النّوَر ) إلا أن هذا الحكم ليس عادلا ولا يمكن أن يشكل أساسا موضوعيا لدراسة عرار الشاعر الذي بان من شعره عمق تفاعله مع القضايا والأحداث أردنيا وعربيا وعالميا.
لا تحسب الجرح فيمن لا يضج أسى يا كوكس! مندملاً فالضيـم نكاء
والحـق لا بد من إشـراق طلعتـه مهما استطالت على أهليه ظلماء
وقـوة الضعف إن جاشت مراجلها تنمرت نعجـة واستأسدت شـاء
ويرى بعض النقاد أن التمرد و الثورة تعود في جذورهـا إلى بدايات حيـاة الشاعر بعد أن شاب علاقته مع والده جفاء إثر طلاق أمه ، فجعل منه هذا الأمر صبيـا متبرما وبعد ذلك شابا متمردا ، وقد يكـون هذا التكويـن النفسي أحـد العناصر التي أججت الثورة في نفس الشاعـر ، ولكـن لا يمكن أن نحمّل كامل ثورتـه وتمـرده على جزئية واحدة بمعزل عن باقي عناصر التأثير والتأثر التي صاغت لنا ظاهرة شعرية فـذة اسمها (عرار) ، ومن هذه العناصر ، الاستعمار الذي يكبـل حريـات الشعوب ،والطبقية الاجتماعيـة التي شكلت تحديـا كبيرا للشاعـر التي سعى جاهـدا إلى مهاجمة رموزهـا والتعريض بهم ، عشقـه المتناهي لوطنه وخشيته أن يكون مصير هذا الوطن بين أيـدي المستعمريـن وأصحاب المصالـح والمرابيـن الذين تغيب عنهم المعاني السامية ،ولا يعنيهم من وطنهم إلا ما تتحصل عيه أيديهـم من مكتسبات.
والبائعين بلادهم بقلامة قد أقدموا والمخلصين تقهقروا
فالحر فينا للعلوج مطية والعفُّ منـا لليـهود يسمسـر
لا تعجبن لفعلنا فنفوسنا رغم الظواهر بالدنـاءة تزخـر
وعرار الإنسان لا ينفصل عرار الشاعر فالنزعة الإنسانية العميقة صاغته قلقا مرهف الإحساس باحثا عن تفاصيل الفقراء زاهدا في أعطيات وحيـاة المترفين والأثـرياء ، وهذا يفسر لنـا ورود كثيـر من المفردات التـي تظهـر تعاطفه ومناصـرته للفئات المسحوقة ، كاستخدامه لمصطلـح ( الصعاليك ) في غيـر مكان ، وهذا يشف لنا عن عالم عرار الإنساني الذي أبـى أن يساوم عليه حتى وإن كان ثمن ذلك وظيفته ومنصبه.
بين الخرابيش لا حرص ولا طمع &#
160; ولا احتراب على فلس ودينـار
160; ولا احتراب على فلس ودينـار
بين الخرابيش لا مـال ولا نسب ولا احتراب على حرص وإيثار
ولا هيــام بألقـاب وأوسمــة ولا ارتفاع ولا خفض بأقـدار
الكـل زط مســاواة محققــة تنفي الفوارق بين الجار والجار
وتتجلى المثل الانسانية برفضه لطبقية مجتمعه وسيطرة فئة من الأثرياء على مقدراته ، وحرمان السواد الأعظم من الشعب من فرصة الحياة الكريمة ، ونرى في بعض المواقع إشارة مباشرة لهذا الواقع ، ويميل في مواقع آخرى كثيرة الى الرمز في ذم هؤلاء الذين تنتفخ جيوبهم ويعيشون مترفيـن من خلال الاستحواذ على خيرات البلد ونهب مقدراته، في حين أن أبناءه المخلصين يجوعون وينفون ويحرمون من أدنى فرص الحياة الكريمة.
أمـا السكاكـر فلينعم بمأكلهـا “صبري” و “منكو” و” توفيق بن قطان”
وليحييَ “لدجر”و”الكوتا” وطغمتها فـي ظـل دوح من الـلـذات فينـان
أما أنـا والمناكيـد الذين هُمُ قومـي وصحبي وندماني وخلاني
فَحسْبُنا نعمة الذل التي نخرت عظامنـا وأعـزتْ أهـل عمـان
إن هذه توطئـة أحببت التمهيد بها لهذه الومضات المختصـرة عن شاعرنـا الفذ،والتـي سأتنـاول فيهـا بشكـل متسلسل عـدة عناويـن:( عـرار المنشأ والـولادة ، المكان الأردنـي في شعر عـرار ، عرار الثائـر المتمرد ،خمريات عرار ، غزليـات عـرار، عـرار ابن وطنه وأمته ، عـرار والسياسة ، عرار والنّوَر، الدِّين في شعر عرار، بين الخيام وعرار)، في محاولة متواضعة للوقوف على بعض الجوانب التي أسهمت بتشكيل شخصية شاعرنـا الكبير، ولعلها تكون مناسبـة كذلك للتعريف به كرمز أدبـي ووطني ،في وقت بتنا نخشى فيه من أن تفقد أجيالنا بوصلتها ،وتتشابك أمامهم الدروب والمسالك ،فتنقطع بينهم وبيـن تراثهم الصلة ، ليصبحوا بعد ذلك مجرد حقل لتجارب وأفكار الآخرين ، وهذا جُلّ ما نخشاه.