لا تلبث سلبية و”بلادة” الجماهير العربية أن تتبادر للذهن كلما نقلت شاشات التلفزة صور احتجاج اليونانيين الصاخب ضد رجال الأمن الذين قتلوا فتى منهم أثناء إحدى المظاهرات.
تعن على البال في هذا المقام السيدة المصرية التي قضت قبل أسابيع في سكتة قلبية بعدما أصابها الهلع من تهديد أحد رجال الأمن المصريين لها “جهارا نهارا” بتعريتها وبناتها أمام أهالي البلدة إن لم تعترف بتهمة ما. لم تثر حينها ثائرة المصريين ولا العرب، كما لم يحتجّ أي منهم بالقانون لإدانة هذه الفعلة، بل إن كثيرين منهم لم يتناهى لمسامعهم الخبر من الأساس رغم عرضه في جل وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة.
هوة شاسعة هي تلك التي تفصل الجماهير العربية عن ردود أفعالها التي كانت حتى في الأمس القريب، إذ بمرور كل يوم يتراكم “العفن” على قلوبهم، بعدما كانت “حرارة الروح” هي رأس مالهم الوحيد المتبقي وسط إرث الخسائر الفادحة التي مُنيوا بها منذ أزمان.
“الخُشُب المسنّدة” العربية لم يطبق عليها الصمت حيال الانتهاكات التي تمارس على حقوقها محليا فحسب، بل ودوليا أيضا، إلى حد يخال فيه المتابع بأن هذه الجماهير تريد التكفير عن خطايا التمجيد السابقة، والتي جرتهم لويلات متعاقبة كتنصيبهم جمال عبد الناصر وصدام حسين رموزا لا يشق لها غبار، فما كان ممن هتف لصدام حسين في التسعينيات إلا أن غدا الآن بالكاد يستذكر ويلات احتلال وتمزق الشعب العراقي. وكذلك الحال مع عبد الناصر الذي جرّ مآسي الهزائم على الفلسطينين والعرب فخرجوا له حينها برغم ذلك باكين كي لا يتنحى، اليوم باتوا هم أنفسهم يتعاطون مع القضية الفلسطينية على أنها درس تاريخ يتحدث عن قصة حدثت في القرن الثامن عشر.
وفي جنوح هذه الجماهير نحو “البلادة” أو بتعبير أدق نحو صمت الأموات، صار يشعر المتأمل بأن الاحتلالات والكوارث التي تحيق بالعرب ولّت إلى غير رجعة بعد انتصاراتهم الساحقة، وبأنهم ينعمون حاليا باستراحة المحارب الذي أنهكته البطولات!!
لم يشعر أي عربي بالعار عندما انطلق أدعياء السلام من أنحاء العالم كافة لنصرة قطاع غزة المحاصر، فيما العرب والمسلمون يحتسون قهوتهم ويتبضعون ملابسهم من محال تتبجح بصهيونيتها، ولم يشعر أي عربي بالعار عندما انضمت حتى الأصوات الدينية لجوقة التطبيع ودعوات التعايش والقبول بالإمبريالية والصهيونية، فيما هي ذات الأصوات التي تعزف على أوتار فرقة الطوائف والفصائل الإسلامية. وهي الأصوات الدينية ذاتها التي تتفنن في ابتكار الفتاوى الشاذة، وإفراد خطب وندوات ومحاضرات عن أي القدمين يدخل بها المسلم لدورة المياه، فيما تتحاشى وتتنكر لمسلمي غزة المحاصرين حتى على صعيد الدعاء لهم في نهاية الخطب “العصماء”.
باتت الأصوات والدعوات التي تسفّه من فكر الثورة والحرية تتعالى يوما تلو يوم، إلى حد صارت فيه أغان من قبيل “يا بحرية هيلا” و”يما مويل الهوا” و”منتصب القامة أمشي” ضربا من ضروب الجنون والعيش في الأوهام، وحتى جاء زمن يتحايل ويتخفى فيه من يتوق لارتداء الكوفية الفلسطينية، فيلجأ لتلوينها بألوان نشاز لإبعاد “التهمة”، فيما إعلاميون وفنانون غربيون يصرّون على ارتدائها برغم عواصف الاحتجاجات التي يثيرها اللوبي الصهيوني ضدهم.
هي ثقافة الخوف المتعششة في التربية العربية، وهو الفهم الخاطئ والمغلوط للواقعية السياسية، وهو الانغماس والارتماء في أحضان الإمبريالية والصهيونية لحسابات مادية وجهوية رخيصة يفصلها عن مبادئ حرية وكرامة الإنسان بون شاسع.
وتماما كما يحتاج العرب لمعجزة من العيار الثقيل كي تنقلب موازين القوى لصالحهم، فإنهم يحتاجون لمعجزات أثقل عيارا كي يرفّ لهم جفن حيال الكوارث والمآسي التي يغرقون في ظلامها الدامس صباحا مساء.
وفي غمرة كل هذا الظلام تلوح فردتا حذاء الزميل الصحفي العراقي منتظر الزيدي، بينما هو يرجمهما على رأس حربة الطغيان بوش، علّ هذين الحذائين يبشران بقرب انبلاج الفجر.