لا يزال لبنان الاختبار الانجح لادارة بوش التي تمكنت من التدخل في شؤونه الداخلية عبر الفوضى الخلاقة بدون استخدام القوة العسكرية. حيث قاوم الرئيس بوش ميوله الدراكولية لامتصاص الدماء العربية بإستخدامه وتوظيفه للعقد النفسية للذات العربية وفي مقدمها “عقـدة الثـأر” حيث تكفي ملاحظة المخابراتيين السيكولوجيين الاميركيين لنظرات وزير الخارجية السعودية وتهديداته من على باب قصر قريطم لترك المسألة اللبنانية للعقد النفسية السعودية.
اليوم وقد مضى وقت يتيح الحديث بدون غريزية ردود الفعل فان فقدان الحريري كان خسارة لكل اللبنانيين بمن فيهم معارضي سياساته وإرتباطاته. والخلاف السياسي وتفاوت وجهات النظر لايجلب تهمة القتل. لكن الوزير السعودي أطلق التصنيف ،الذي قبلته لاحقاً عائلة الحريري، بتقسيم اللبنانيين الى مؤيدين لسياسات ما بعد الإغتيال والى قتلة الحريري. وهو شعار إتخذه النائب سعد الحريري شعاراً إنتخابياً لحملته الانتخابية الاولى العام 2005.
مخافة هذا الشعار المهدد أهدرت دماء الحريري وحولتها على الطريقة الاميركية الى سيولة سياسية عبر الانتخابات. حتى تمكن الأعداء الحقيقيون للحريري من ركوب قطار انتخابات إغتياله. وتكفي مراجعة مواقف وتصريحات شخصيات ما يسمى اليوم ب 14 آذار قبيل الاغتيال لتبين مستوى عداء بعضهم للرجل.
كما تم إهدار دماء الحريري عبر تركيبة أسماء لوائح ما بعد اغتياله التي ضمت أعداء حقيقيين له ،وربما مرشحين للإتهام باغتياله، كما ضمت شخصيات لم يكن المرحوم ليضحي بسمعته بمجرد قبوله ترشيحها. وهذا المزيج هو المكون لجماعة 14 آذار الحالية.
الذكاء في ادارة بوش إقتصر فقط على الساحة اللبنانية حيث لعبة العبث باللاوعي الجماعي وتحريك المشاعر السلبية ورغبات الثأر المدمرة أكثر ذكاء من القصف الوحشي في العراق. وهذا اللعب على ألغام اللاوعي أدى الى فقدان التوجه ومعه ضبابية تفقد القدرة على التمييز بين الصديق والعدو. وهنا ضاعت الحقيقة التي يقال انهم يبحثون عنها. وبداية الضياع كانت الانجراف وراء إيحاء “التفجير تحت الأرض”.
ومع الاعتذار للوزير السعودي نقول بان رئيس الوزراء السني القتيل كان يستأهل مشاركة رفاقه في نادي رؤساء الوزراء ومعهم وجهاء الطائفة في جنازة سنية تقليدية له بدون الشموع غير المعتادة في جنازات لبنان السنية. كما كانت آراء الفقيد ورأيه بالأشخاص جديراً بالاحترام بعد وفاته وبخاصة لجهة انتقاء المرشحين وتحديداً منهم المنافسين لزعماء السنة. حيث سجل المرحوم تجاوزاً وحيداً في المجال ضد الرئيس سليم الحص في انتخابات كان الحص يرأس حكومتها. أما ما بعد الاغتيال فقد جاء الجميع بالتجاوز وهو ما أثار حفيظة النخب السنية وفق الحديث الشريف “مثلما تكونوا يولى عليكم”.
فهل تكفي رغبات الثأر الضالة التوجه لتبرير كل هذه المخالفات والأخطاء؟.
لقد إستدركت السعودية بعض هذا الخطأ لكن المتسللين تحت عباءة الاغتيال لا يأبهون لهذا الاستدراك كونهم متسللين لا علاقة لهم بكل الشعارات المطروحة في انتخابات الاغتيال. وستكتشف المملكة عاجلاً أم آجلاً ضرورة الحذر من خضراء الدمن!!. يوم تكتشف حقيقة ولاءات من تظاهروا بالولاء لها ولآل الحريري.
يكفي المملكة مراجعتها للشخصيات التي فرضتها عليها الانتخابات الأخيرة مقابل الشخصيات التي أقصتها كي تدرك السعودية حجم خسارتها بين النخب السنية وعدم كسبها للغوغاء والمملكة لا تهتم بهم في العادة. ويبقى ان تدرك المملكة ان النخب السنية لم تقبل عودة الرئيس شمعون بعد ثورة حلف بغداد وهي لن تقبل وجوهاً عديدة من طاقم برلمان الاغتيال وفي المقدمة المدعو سمير جعجع. وهنا يذكر للمملكة انها لم تستقبله رداً على زيارة عون لإيران بل بعثت به مغلفاً الى مصر.
ذكاء ادارة بوش تجلى فقط في لبنان حيث تجنبت التدخل المباشر وخاصة العسكري رغم وقوف المدمرة كول على مقربة من الشواطيء اللبنانية وإبحارها سريعاً. تاركة التدخل العسكري لإسرائيل التي ذاقت مرارة فقد القدرة على العدوان ولا نقول الهزيمة. لكن التوازن النفسي للساكن الاسرائيلي تقوم على الشعور بالقدرة على العدوان وهو
شعور فقده سكان اسرائيل بعد حرب تموز.
شعور فقده سكان اسرائيل بعد حرب تموز.
اما عن تجنب ادارة بوش التورط العسكري في لبنان فهو ليس ذكاءً صافياً بل يمازجه حذر من تكرار صدمة فيتنام. اذ ان لبنان وحده دون بلدان المنطقة القادر على تكرار تجربة فيتنام الاميركية. وهو ما يفسر تجاهل بوش لدعوة السيد نصر الله في 8 آذار 2005 “إذا أرادوا سلاحنا فليأتوا بأساطيلهم الينا!” ولم تأت الاساطيل بل تم توريط الجميع بمن فيهم اسرائيل التي لم تتخطى ورطتها بعد.
اليوم وبوش وادارته يستعدان للرحيل محاولين تفخيخ الملف اللبناني قبل رحيلهم. إذ يتفق المحللون السياسيون على اختلاف مذاهبهم السياسية على ان منطلقات بوش تقنع قسماً من اللبنانيين وتضع الباقين في مواجهة مع السياسة الاميركية. وهي مواجهة لا ترغبها ادارة أوباما. ومن المواقف المورطة التي يعلنها مسؤولي ادارة بوش تصريحات نائب مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد هيل من أن إعادة تسليح “حزب الله” نفسه «عبر سوريا وإيران» قد يؤدي لحرب اسرائيلية جديدة على لبنان. في حين ان عملية اعادة التسليح جرت تحت نظر ادارة بوش وسمعها منذ 2006 وحتى اليوم. كما يسجل المحللون اعتبار«منسق مكافحة الإرهاب» في الخارجية الاميركية الجنرال ديل ديلي أن “كل منظمة إرهابية في لبنان تمثّل تهديداً للحكومة اللبنانية والشعب اللبناني، سواء كانت «فتح الإسلام» أو «حزب الله» أو غيرهما” بمثابة فرضية لا يوافق عليها معظم اللبنانيين. ويختم المحللون ان جماعة بوش يريدون طمأنة اصدقاءهم اللبنانيين على حساب ادارة اوباما. لكن الأخيرة تعلم جيداً مدى ارتباط الوضع اللبناني بالوضع الاقليمي وهي ستعمل على هذا الأساس مخالفة مواقف ادارة بوش في لبنان.
ختاماً نذكر ان من ألغاز الديمقراطية والسياسة اللبنانية انها لا تأبه بالانتخابات بقدر ما تتحسس نتائجها. وعندما لا تكون الانتخابات عادلة ومقبولة من الجمهور فانها تنتج برلمانات معاقة أقرب الى المنغولية منها الى فاقدة الأهلية. وما حدث في انتخابات غير عادلة سابقة في 1947 و1958 عاود التكرار في انتخابات 2005 حيث قضى البرلمان المفترض مدته حتى دون ان نرى اللوحات الزرقاء على سيارات اعضاء البرلمان الافتراضي. وسيكون من اكبر أخطاء سياسة أوباما ان تقبل بتكرار إنتخابات فيلتمان في لبنان فهذا القبول سيعرضها لأضرار هائلة في الشرق الأوسط. وبما ان السعودية دخلت مرحلة المراجعة في لبنان فاننا ندعوها بكل المحبة الى مراجعة التاريخ الشخصي والحيثية الموضوعية والانتماءات الخفية لمن قدمت اليهم دعمها المادي والمعنوي لتمثيل الطائفة السنية في لبنان. فمصالحة المملكة للطائفة ونخبها باتت ضرورية نظراً لمكانة المملكة في العالمين العربي والاسلامي. وهي مكانة لا تسمح للمملكة بتكرار خطأ الإنسياق وراء الفخ الجديد لإدارة بوش وتفخيخه الوداعي للملف اللبناني.
* رئيس المركز العربي للدراسات المستقبلية