ميسلون هادي
في مطلع الستينات ظهر بابا الفاتيكان على الملأ ، ليدين علاقة خارج الزواج اقامتها الممثلة اليزابيث تايلور مع الممثل ريتشارد بيرتون اثناء وجودهما في روما لتمثيل فلم (كليوباترا) الشهير الذي قام الاثنان بادوار البطولة فيه . وقبل ذلك في الخمسينات من القرن الماضي كان مفهوم العذرية قبل الزواج لايزال ساريا في المجتمع الامريكي وكانت العوائل الامريكية تتسم بالمحافظة ازاء نظرتها الى قدسية الزواج واقامة الاسرة بالطرق الشرعية المتعارف عليها.كان هذا يحدث في امريكا ذات المزاج المغامر والرغبة في الجري وراء الصرعات الجريئة والجديدة فما بالك بالدول الاوربية الاخرى عبر الاطلسي التي كان محافظوها من المتدينين لازالوا متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم والتي بلغ بها التشدد الى اضطرار الملك ادوارد الثامن ملك المملكة المتحدة ودول الكومونولث عام 1936 ، الى التخلي عن العرش من اجل الزواج بالمرأة التي أحبها ، لان التقاليد الملكية لم تكن تسمح آنذاك للملك بالزواج من امرأة مطلقة .كما وحاكم القضاء البريطاني في مطلع الستينات رواية لورانس “عشيق الليدي تشاترلي”واعتبرها رواية اباحية منافية للاداب.
في تلك الفترة ايضا كانت الافلام والبرامج التلفزيونية تعكس صورة محتشمة تظهر فيها القيم الاجتماعية العقلانية هي المتسيدة، والشخصية الامريكية، رغم مبالغاتها ،لاتزال قيد الانضباط بالحس الاخلاقي السليم ثم ماهو الا نصف قرن من الزمان ، وهو فاصلة زمنية قصيرة قياسا الى زمن الانسانية ، وانقلبت المفاهيم رأسا على عقب وظهر الامريكيون وهم يعلنون فضائحهم على الملأ في برامج حوارية ناقشت كل المحظورات ووصلت الحرية الى الحد الذي أصبحت فيه العلاقات غير الشرعية والمثلية معترف بها وغير مستهجنة من قبل المجتمع وأحيانا مشرعنة؟؟؟
يبدو،ان الذي حدث في هذه الفاصلة الزمنية الخاطفة التي تسبح فيها الاقمار الصناعية في هذا الفضاء الاعلامي الشاسع، هو ان المنافذ التلفزيونية على الارض قد عملت بقوة على تفكيك هذه التقاليد ثم استعملت أيقونات الفن والفنانين للتلاعب بها ونقلها الى مناطق جديدة غير مطروقة وبمرور الزمن لعب هذا الاعلام دورالبطولة في وقوع المحاذير بين الناس وفي تحويل المحظورات الى مسموحات وقد حدث ذلك في غضون سنوات قلائل تعد على اصابع اليدين.
***
بدأت لغة الصراحة والشفافية في الإعلام الغربي تنتشر وتتسع لتشمل مناحي ووجوهاً مختلفة من هذا الإعلام، عندما سادت في وقت مبكر من القرن الماضي الإعلانات التجارية التي تشير إلى رائحة العرق أو رائحة الفم أو إلى إزالة الشعر الزائد أو إلى الموضوعات النسائية الأخرى، التي كانت من أشد خصوصيات المرأة بعداً عن الإعلان. إن هذه الجرأة في طرح صور وثيمات جديدة وغير مطروقة من قبل في الإعلان التجاري، جاءت بعد تاريخ طويل من الترويج للبضائع الضرورية وصولاً إلى تلك اللحظة الكمالية التي أصبح فيها استهلاك الحرية ممكناً بعد الفراغ من استهلاك ضروريات المأكل والمشرب والملبس وهذه اللحظة توازيها وتأتي في عقابيلها لحظات مشابهة ستستهلك المزيد من الحرية إلى أن تصبح هذه الحرية الأتون التي يحترق فيه الفرد، بعد أن تبدأ باستهلاك خصوصياته وثوابته الاجتماعية فتدمر استقراره النفسي وتتركه مشوش الفكر والروح. وقد دارت عجلة الإعلام الأمريكي في هذا الاتجاه منذ زمن طويل جداً. لأن شروط الحرية لديهم تفاعلت مع متغيرات المجتمع في وقت مبكر، فكانت العلاقة بينهما طردية وجدلية. كلما زادت آفاق الحرية كلما سرّعت من تغير المجتمع، وكلما تسارعت متغيرات المجتمع كلما اتسعت شروط الحرية. وهكذا سارت عجلتها بسرعة كبيرة جداً وأصبح من الصعب إيقافها أو التحكم فيها، بالرغم من وجود القوانين والضوابط الاجتماعية التي تحدّ نسبياً من إطلاق العنان للمزيد العشوائي منها. وفي هذا الإطار نشاهد الإعلام الأمريكي، وفي حمى هذا الإيقاع السريع، يحاول أن يتسابق مع الزمن لإثارة حماس المشاهدين عن طريق اللهاث وراء الصرعات والمبالغات الإعلامية. فتارة تزدهر برامج (الكاميرا الخفية)، وتارة أخرى تزدهر برامج (المسابقات) وتقديم الجوائز الكبرى التي تصل قيمتها إلى ملايين الدولارات، وتارة ثالثة تقفز إلى الواجهة برامج (تلفزيون الواقع) التي وصل رذاذها إلينا، فقَبِلها من قبِلها، ورفضها من رفضها، ليبقى في النهاية، على ما يبدو، هذا الانفجار الفضائي تتساقط شظاياه فوق رؤوسنا المكشوفة كسقوط الحجارة بعد الزلازل. وبأسرع مما نتوقع غمرتنا الموجة العاتية وخضنا في الماء والطين وابتعدنا عن شميم أمنا الأرض واستبدلناها بالنجمات الفاتنات والمايوهات ورنات الموبايلات وأخبار الفنانين والفنانات. وواضح أن بعض القنوات تلعب الدور الأكبر في إغراق جمهور الشباب برموز وصور الإسفاف المستعارة من ثقافات الغرب في رحلة الألف ميل التي تبدأ بخطوة واحدة ثم سرعان ما تجعل الطريق سالكة ومأهولة، وحلول العملة الأردأ تجعلنا نترحم على العملة الرديئة، ووجود أنصاف العرايا تجعلنا نترحم على أرباع العرايا. وهكذا تمضي رحلة الألف ميل دون أن نشعر أين صرنا وأصبحنا وفي أي أرض غريبة وجرد ناء رمى بنا الزمان.. ولكن الهز الفضائي مستمر في
مصر ولبنان بينما تقوم الزلازل الأرضية في العراق وفلسطين وأفغانستان والعلاقة بين الاثنين، لو تعلمون، وثيقة لأن الإرهاب الفضائي هو الذي يغذي الإرهاب الأرضي ويؤججه فتعلو هذه الموجة كلما اشتدت تلك.فأصبحت المبالغة في ارتداء الحجاب ووصوله الى رؤوس الفتيات الصغيرات رد فعل على المبالغة في العري وكشف المفاتن والعكس أيضا صحيح في مسلسل حرب الملابس التي أصبحت تعبرعن الهوية المذهبية أكثر من تعبيرها عن الالتزام الديني الحقيقي وأصبحت المرأة تقويما يكتب عليه الاخرون انتصاراتهم وهزائمهم بل وحتى فروضهم الايدولوجية .
***
ذات يوم وانا انظر من نافذة المطبخ الى الحياة التي تدب رويدا في شارع خارج البيت في بلد عربي ، استوقفني منظر حارس العمارة ،وهو من بلد عربي اخر، يغسل سيارة مركونة قرب باب العمارة سلمه صاحبها ،وهو من ابناء البلد، مفاتيحها ثم تركه ليمارس رياضة الركض (جكنك) وعلى وجهه تبدو الحياةمترفة ووافرة الرفاهية .
بعد قليل عندما عاد حارس العمارة وقرع الباب ليأتي ببعض الفواتير لم اعثر في وجهه على اثر للابتسام او الاريحية التي اعتدنا ان نجدها في وجوه البوابين وعندما قدمت له الاكرامية قال لي :
-ماشي
ولم اسمع تلك التعابير المشهورة التي حفظناها عن ظهر قلب في الافلام المصرية يقولها لي أو لغيري مثل يا بيه يا باشا يا ريس ياست الكل, ربنا يخليك ويزيدك من نعيمه، بل فقط كلمة ماشي وتعبير باليأس يطبق على ملامح الوجه الذي بالكاد تعثر فيه على الفرحة. وليست تلك الاخلاق الجديدة خاصة بالحراس والبوابين والفقراء بل امتدت لتشمل مارة الشوارع وشرطة المرور وسواق التكسي ومعظم الناس في جميع بلدان شرق المتوسط ممن امسك الفقر بخناقهم فتحولت حياتهم الى بؤس وصراع من اجل البقاء لا وقت فيه للضحك او الابتسام او المجاملات او كلمات التودد والتحية ،بل ان اهالي بعض هذه البلدان تسلم عليهم ولا يردون السلام وتبتسم ولا يبادلونك الابتسام ، وعندما يأتي وقت الطعام فإنهم يأكلون طعاما (أي كلام ).
في مثل هذه الظروف الشرق متوسطية الخانقة يبدو برنامج مثل برنامج (ستار أكاديمي) في واد وهموم العالم العربي في واد آخر كما ان تقديمه المتواصل منذ خمس سنوات تزامن مع اسوأ وأعتى محنة وظروف كارثية يمر بها العرب سواء من النواحي السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية بعد أن احتل العراق وشهد ظروف العنف والاقتتال المعروفة وحدثت الفتنة على الاراضي الفلسطينية ثم على الاراضي اللبنانية وتراجعت الحريات كثيرا جدا في معظم البلدان العربية البلدان ونشطت الحركات الدينية المتشددة في أكثر من مكان من أراضي الخليج العربي وعمت الاضطرابات بعض البلاد المستقرة نسبيا مثل مصرواجتاح الغلاء العالم العربي يشكل غير مسبوق ………..الى اخره من المحن والكوارث المعروفة ،لكن ذلك كله لا يمنع من القول ان نسبة مشاهدة البرنامج عالية جدا وتشمل مختلف الاعمار والفئات المجتمعية بل ربما تكون تلك الظروف على وجه التحديد قد ساهمت بالترويج للبرنامج كنوع من الترويح او التعويض عن الظروف الخانقة التي يعيشها الناس، وفي استفتاء بسيط اجريته في مدرسة ثانوية ببغداد ، تبين لي ان طالبات صف كامل من صفوف المرحلة النهائية يشاهدن البرنامج كل يوم ماعدا طالبتان فقط الامر الذي يجعلنا نتساءل :هل يشكل هذا البرنامج هروبا من هذا الواقع المر الى حلم فنطازي وصورة وردية من احلام اليقظة يتمثل في وجود مجموعة من الشبان والشابات يتمتعون بحرية نسبية داخل مكان واحد يوفر لهم ما حرمهم منه المجتمع المحافظ .
من النظرة الاولى يبدو الامر كذلك كما ويبدو برنامج مثل هذا، مقبولا في شكله النظري لتقديم المتعة والتسلية لجمهور يزداد حرمانا وقهرا والظروف من حوله ،خصوصا بالنسبة لجمهور البنات، تزداد قمعا وتنكيلا فيبدو الزمان وكأنه يدور بنا إلى الوراء و تعود الفتاة لترتدي الحجاب وهي طفلة في الابتدائية كمظهر من مظاهر التشدد الذي نراه اخذا بالانتشار .
في مثل هذه الظروف القاهرة تتطلع الفتاة الى هذه البلورة السحرية فترى الفتيات الجميلات والفتيان الوسيمين يعيشون في مكان واحد ويتبادلون الأحضان والقبلات وبرضا أهاليهم ومعلميهم والقائمين على الأكاديمية فيحدث التماهي بين الجمهور وبين هذه الأماني المستحيلة ثم بعد ذلك يحدث الشرخ الرهيب بينما هو واقعي في مجتماعتنا المحافظة في أغلبها، وليس جميعها، وبين هذه الحرية المباحة التي تجعل الفتاة ترتدي ماتشاء وتفعل ماتشاء ويغازلها من يشاء تحت أنظار أهلها وأبناء بلدها والعالم أجمع.ان هذاالتناقض الصارخ بين الواقع وبين تلفزيون الواقع سينتج ردة فعل قوية تتمثل بزيادة الأفكار الظلامية التي تحاصر المرأة وتحد من حريتها وحركتها وتضع حولها المزيد من الحواجز والقيود.
ومما ليس عليه غبار ان هذه البرامج ذات الشعبية والجماهيرية الواسعتين لها رسالة فنية موجبة ولكن الرسالة الأخلاقية التي تصاحبها هي سالبة بكل المقاييس وترسل أفكارا وسلوكيات خاطئة لأبنائنا وبناتنا عن الطريقة التي يجب أن يعيشوا بها أو يستغلوا بها قدراتهم ومواهبهم وحري بمثل هذه البرامج أن تستثمر شعبيتها وجماهيريتها في تشجيع الشباب على اقتناء كتاب جيد أو ممارسة هواية جيدة وانشاء حوارات مفيدة لمناقشة قضايا جادة وبناءة ليس بالضرورة أن تكون سياسية تجنبا للاشكالات، ولكن بالامكان استضافة الكتاب والصحفيين والرسامين القادرين على اغناء البرنامج بالحوارفتضمن زيارا
تهم بعض الفائدة لأن استمراره بهذه الطريقة سيبعد عنه حتى نجوم الطرب المشهورين من ذوي المواقف الملتزمة وسيجد البرنامج نفسه في النهاية في منطقة محروقة يكرر أسماء الضيوف الذين لايترددون في قبول أي عرض من أي جهة كانت لأن الأسماء ذات التاريخ المعروف ستنأى بنفسها عن الوقوع في مثل هذه المطبات.
ان طريق ستار أكاديمي الذي يراد منه أن يكون مفروشا بالورود للوصول الى نجومية الموسيقى والغناء، لايقدم بجانب هذه الرسالة سوى سلوكيات مشوهة لاتمثل مجتماعتنا وشخصيات هشة خاوية من كل وعي يعتد به أو مستوى ثقافي معقول وبالتالي فان البرنامج كان ولايزال في مرحلة المراهقة المزعجة والقائمون عليه أيضا لايغادرون هذه المرحلة ماداموا لايفعلون شيئا في مشروعهم هذا سوى الاكتفاء بالتقليد الأعمى للنموذج الغربي الذي لن يجر علينا سوى الويلات والمصائب.