قد يكون للمسبحة معنى عند العراقي لا يفهمه غيره، ففي الفولكلور العراقي تعد المسبحة عنصرا من العناصر التي تكتمل بها الأناقة فضلا عن استخدامها أداة للتأمل، إذ يضعها الرجل بين البنصر والوسطى ويشرع بزحلقة خرزها بين إصبعيه في دورة لا متناهية. بينما يسرح في أفكاره على إيقاع ذلك الخرز متذكرا أو متفكرا.
و ربما تكون فكرة الدورة اللا متناهية للمسبحة المفتاح السحري لفهم مجموعة السماوي هذه، ولكي تتضح الفكرة عليّ أن أذكرك بنركيب المسبحة، فهي عدد محدد من الخرز المتشابه، عدا خرزة واحدة تكون كبيرة وتتخذ شكلا مخروطيا تقريبا وربما شكل مئذنة، تسمى في اللهجة العراقية (الشاهود) وتنتظم في خيط واحد لتشكل دائرة مغلقة، ولننظر الآن في هذا النص من مسبحة السماوي:
كلّ يذهب في حال سبيله
النهر نحو البحر –
السنابل نحو التنور –
العصفور نحو العش –
االآفك نحو اللعنة –
القلم نحو الورقة –
الصلوات نحو الله –
الوطن نحو الصيارفة –
وقلبي نحوك.
هذا النص الذي جاء تحت رقم (8) في المجموعة، يمثل الصورة النوذجية للمسبحة ببنائه وشكله، فبإمكاننا ملاحظة تعمد الشاعر وضع علامة (-) عند نهاية كل سطر، بحيث لو أعدنا كتابة النص على شكل سطر واحد ستكون هذه العلامة بمثابة الخيط الذي تنتظم فيه الخرزات، وبما أن السطر الأول فقط ينتهي بعلامة (:) والسطر الأخير ينتهي بنقطة، فلو أعدنا كتابة النص على شكل دائرة ستكون نقطة التقاء السطرين الأول والأخير في مقابلة (شاهود) المسبحة.
من المهم هنا أن نلاحظ أن الأسطر كلها عدا الأول تتركب من التركيب اللغوي ذاته:
س نحو ص
وهذا يعكس تشابه الخرز في المسبحة أما السطر الأول فهو رأسها أو (شاهودها).
ومن المهم أيضا أن نلاحظ أن الأشياء تتحرك باتجاه القراءة نفسه:
س تتحرك > نحو ص
غير أن السطر الأول يجمل الحركة كلها بحيث يمكن وضعه نهاية النص أيضا:
كلّ يذهب في حال سبيله
……… –
وقلبي نحوك.
كلّ يذهب في حال سبيله
وهكذا تكتمل صورة حركة الخرز اللا متناهية في المسبحة.
وفي الفولكلور العراقي تتكون المسبحة إما من (33) أو (99) خرزة، عدا خرزة (الشاهود). غير أن ذات الخرز التسع والتسعين ترتبط عادة بمفاهيم صوفية فضلا عن كونها جزء من أناقة المظهر. وهذه هي المسبحة التي اختار السماوي نسج مجموعته على منوالها، فالمجموعة تتكون من تسع وتسعين قطعة، تسبقها صفحة كتبت عليها البسملة حسب، فهي أول ما ينطق به عند التسبيح. ويمكن أن نلاحظ اختيار الشاعر وضع أرقام لقطعه بدلا من العنوانات إمعانا في خلق الشبه بينها كما الخرز.
تعتمد نصوص (مسبحة من خرز الكلمات) أساسا فنيا واحدا في بنائها، وهو خلق طريقة للعد كما هو حال التسبيح، ومن تلك الطرق عدّ الأشياء كما في النص (5):
أكلّ هذه السنين العجاف –
الهجير –
الحرائق –
معسكرات اللجوء –
المنافي –
وقلبي لما يزل
أعمق خضرة
من كل بساتين الدنيا؟
الهجير والحرائق معسكرات اللجوء والمنافي مثال للعد في نصوص المجموعة، ويمكننا ملاحظة حرص الشاعر على وضع علامة (-) عند أواخر المعدودات، فهي رمز خيط المسبحة. وقد يبنى نظام العد على مثال الأحجية الشعبية:
السفينة
غرقت؟
لا ذنب للميناء –
إنه ذنبها!
لا ذنب لها –
إنه ذنب المجاديف!
لا ذنب للمجاديف –
إنه ذنب الرأس!
…….
هكذا يستمر النص (17) بتقنية لعد الأشياء عبر بنية تشبه بنية الأحجية الشعبية.
ويتم العدّ أحيانا بتكرار الصيغة النحوية كما في النص (19)
لن يكون بعيدا
اليوم الذي يتآلف فيه:
الخبز مع الجياع –
العشب مع الصحارى –
والحدائق مع العشاق –
………
من المهم أن نلاحظ حرص الشاعر على وضع علامة (-) بعد كل جملة من جمل المعدودات للتذكير بصورة المسبحة، كما يمكن ملاحظة استخدام النقطتين (:) قبلها للتنبيه إلى عملية العدّ التالية.
هكذا يقدم السماوي مجموعة شعرية بنيت نصوصها بطريقة تكاملية بحيث يكون كل نص جزءا عضويّا من بنية المجموعة في الوقت نفسه الذي يبدو فيه أنه بنية مستقلة.