للحذاء العراقي دلالات واستخدامات تتعدى المألوف. الأهم فيها انه أداة تعبيرية شديدة اللهجة.
فلانقلاب الحذاء معنى، ولصعود فردة على أخرى معنى، وللضرب به معنى.
وللعراقيين تاريخٌ عريقٌ في استخدام الحذاء ضد العملاء. فالعمالة هي الشيء الأقصى، والحذاء هو الرد الأقصى. أكثر من واحد قضوا بالفعل بضرب الأحذية. ولقد رأى نوري المالكي بأي شيء سيُضرب بعد حين.
لقد حاول رئيس الوزراء الإيراني في العراق (لانه ليس بعراقي) أن يصد عن ولي نعمته الحذاءين اللذين قذفهما منتظر الزيدي، ولكنه كان، مثل سيده، أمام مشهد للكشف عن طبيعة سلطته.
صحيح تماما القول إن الحذاء العراقي، بتلك الضربة المباركة، قد دخل التاريخ من أوسع أبوابه. ولكن صحيح أيضا أن المهمات التاريخية التي يشحذها العراقيون لأحذيتهم ما تزال تنطوي على استشرافات مشرقة للمستقبل.
وفي حدود نظرية المعرفة بتوجهات الأحذية في العراق، فان حذائي الزيدي هما بداية الطريق، لا نهايته.
ولعل الاستشرافات المستقبلية ستجعل أي زعيم غربي، شارك في غزو العراق، أو أي عميل عربي تواطأ مع هذا الغزو، أو أي منافق إيراني يحكم في المنطقة الخضراء، ينظر بحذر الى الأحذية، ويطلب اتخاذ اجراءات احترازية ضدها.
السفراء، مثل ريان كروكر، ربما سيجدون أنفسهم مضطرين للتأكد من أن “القيطان” مربوط جيدا. ولعل قائد القوات الأميركية في العراق سيضع في حساباته العسكرية النظر الى الأحذية بوصفها عدوا محتملا.
الإجراءات الأمنية قد تشمل تنزيع أحذية العراقيين الذين يقتربون من الزعماء الزائرين. وهذا سوف يتطلب، بطبيعة الحال، إنشاء “كيشوانية” خاصة بالمنطقة الخضراء.
وفي الواقع، فان عملاء إيران في العراق لديهم خبرات خاصة في “الكيشوانيات” (وهي مكان لنزع الأحذية، يخلع الزائر فيه حذاءه، ليوضع في رف خاص، مقابل بعض المال بعد انتهاء الزيارة).
فلئن كانت حكومة الكيشوانية الخضراء صارت تتقاضى أجورا عالية مقابل خدماتها لأحذية الاحتلال، فإنها ستكون مضطرة الى أن تستقبل أحذية عراقية بالأسعار المتداولة في النجف وكربلاء.
وربما قال قائل، أن كيشوانية المنطقة الخضراء هي التي يجب أن تدفع، طالما أنها هي التي تخشى أن تنفلت الأحذية من عقالها في وجه أحدهم.
ولا أحد يعرف كيف ستكون “المحاصصة الطائفية” في هذا الصدد. فالأحزاب الشيعية ربما ستطالب بإقليم خاص بها في الكيشوانية. فيما تقول الأحزاب الكردية أنها لن تنزع أحذيتها ما لم يتم الاتفاق على إلحاق كركوك بإقليم الكوليرا.
وسيجد نائب الرئيس العراقي نفسه مستعدا للتخلي عن منصبه مقابل توحيد جميع كيشوانيات “العملية السياسية” في كيشوانية واحدة.
ولربما ستكون هناك حاجة لإصدار مرسوم جمهوري يمنع الأحذية “القبغلي” من التداول، بل إخراجها كليا من “العملية السياسية”، بالنظر الى أن خلعها أسهل، بما أنها من دون قيطان.
وللعراقيين ذكريات سياسية مهمة مع الحذاء. ومنها على سبيل المثال الهتاف القائل: “نوري السعيد القندرة، وصالح جبر قيطانه”.
ومات نوري السعيد بضرب القنادر، رغم انه لم يستبح من دماء وأعراض العراقيين بمقدار ما فعلت عصابة المنطقة الخضراء.
والحذاء العراقي، يُشرّف، بالأحرى رأس المضروب به. فالعراقي إذا اضطرته الظروف الى خلع حذائه، فانه ينظر اليه على انه أعلى قيمة، وانه برميه على المضروب، فكأنه يقول له: قندرتي أشرف منك، يا كلب.
وهذا هو السبب الذي جعل الزيدي يرمي حذائيه مشفوعين بالقول للرئيس الأميركي “يا كلب”. فالحذاء في الثقافة الشعبية العراقية لا يرمي إلا مقرونا بتذكير المضروب انه كلب. وذلك للتأكيد على أن الحذاء أعلى منه شأنا. والتعبير المادي لرمي الحذاء، لا بد وان يقترن بتعبير معنوي يجعله يفهم أن مستواه أدنى من شسع الحذاء.
وللحذاء العراقي قيمة سياسية بارزة، سجلها الشاعر بقوله: “إضرب بشسع نعلك تيجانا وأنظمة…” حيث لا تقتصر استخداماته على ضرب الأفراد وحدهم. ولولا هذه القيمة لكان من العسير على العراقيين العثور على بدائل. فالشسع هو أدنى ما في الحذاء. وهو ما يعني أن هناك اجزاءً من الحذاء أرقى شأنا من أن يستحقها المضروبون به.
وكان من حسن حظ الرئيس بوش أن يختتم ثماني سنوات من حكمه بذكرى حذاء عراقي اجبره على أن ينحني احتراما لمروره المبجل فوق رأسه.
فرئيس مثل بوش، وهو يحاول تحسين صورته في أسابيعه الأخيرة في السلطة، كان لا بد له أن يحظى بالتكريم المناسب، من جانب حذائين تطايرا أمام وجهه تطاير النوارس فوق مزبلة.
فصورته ستظل مربوطة بالحذاء، والانطباعات عن سنوات رئاسته ستظل تطفو على سطح “الحذاء الأخير”.
والعراقي الشهم، يعرف قيمة حذائه. فهو سلاح وقت الشدة، أوقع أثرا من إطلاق النار.
فأن يتعرض احدهم الى ضربة حذاء، فان العار يظل يلحقه الى الأبد. فبالحذاء يكون قد تلقى الإهانة القصوى التي ما بعدها إهانة.
ولكن العراقيين منصفون في أحذيتهم. وهم لا يستخدمونها إلا بوجود أسباب قاهرة. ويعرفون جيدا انها تقصد توجيه إهانة قصوى، يجب أن يكون صاحبها يستحقها فعلا.
وهذا النوع من الإهانات لا يزول من الذاكرة. ولا تغطيه أخبار تبثها رويترز عن “النجاحات” التي يحققها الاحتلال.
فقد حاولت رويترز، ببثها عدة تقارير عن زيارة بوش، القول أن “الخبر” (بالمعنى المهني للكلمة) هو الرئيس.
في حين إن الكل كان يعرف إن “الخبر” هو القند
رة التي تلقاها الرئيس، وليس الرئيس نفسه.
وهذا حدث صحافي فريد من نوعه. فهذه هي المرة الأولى التي يصبح فيها حذاء أكثر أهمية من رئيس.
ومنتظر الزيدي صحافي. وهو يعرف، من دون أدنى شك، انه كان يستطيع أن ينتقد سياسات الرئيس بوش وعملائه في العراق بصنعة القلم. ولكنه أراد أن يقدم لهم الدليل على أن حذاءه أكثر أهمية من مؤتمرهم الصحافي، وان نجوم السماء اقرب لهم من قلمه.
الحذاء كان هو المؤتمر. وهذا ما يجعله أهم حذاء في تاريخ الصحافة.
نحن المتواضعون، الذين لا سبيل أمامنا لخلع الحذاء، مضطرون الى مواصلة الكفاح بالقلم.
ولكن هذا الحدث التاريخي، علّمنا إن الحذاء يؤدي أغراضه على أحسن وجه، إذا انطلق ليرفرف فوق الرؤوس، كما تنطلق العبوة الناسفة.
ويقال عن العراقي: “إيده والقندرة” في دلالة على مدى السهولة التي ينزع فيها العراقي حذاءه ليهين من يعتدي عليه.
ولكن هذه هي المرة الأولى التي يتحول فيها هذا الشعار الى تصريح سياسي (استيتمنت) يدلي به الصحافي، بدلا من أن يسجله.
بالطبع سيتعرض منتظر الزيدي الى التعذيب. بالطبع سيواجه أبشع أعمال التشنيع الجسدية. وبالطبع، لن تعمل المنظمات التابعة للأمم المتحدة شيئا لانقاذ الزيدي من براثن الجلاوزة. وبالطبع لن يتدخل الصليب الأحمر الدولي، ولا المنظمات التي تصدع روؤسنا بمشاغلها الانتهازية عن حقوق الإنسان. فهذا كله أمر مفروغ منه.
العراقيون ما كانوا بحاجة الى يخلعوا قنادرهم، لو كانت هناك مؤسسات ومنظمات دولية تحترم نفسها لتوقف جرائم الاحتلال وجرائم عملائه، أو لو كانت هناك محكمة دولية لجرائم الحرب يتخلى قضاتها عن النفاق ليقولوا أن ضمائرهم ليست ميتة الى هذا الحد.
ولكن ما باليد حيلة. فقد أسقط في يدنا. ولم يبق إلا القندرة، لتكون وسيلة للتعامل مع عالم كالعالم الذي نعيش فيه.
فانزعوا أحذيتكم.