د. ظافر مقدادي
مجلة الفينيق الثقافية/ هيوستن
تناقلت وسائل الاعلام مشهد قذف الصحفي العراقي فردتيْ حذائه باتجاه الرئيس الأمريكي جورج بوش ومضيفه رئيس الحكومة العراقية، ولم تكن وسائل الاعلام بحاجة الى أي ترجمة للمشهد، فقد كان مفهوماً لكل البشر القاطنين على هذه الأرض.
المشهد بحد ذاته يدعونا للتأمل والتفكير والتحليل، فهو يختزل المشهد العالمي عبر التاريخ، ويطوي في ثناياه مستويات رمزية تحيلنا على قراءات لغوية وثقافية ودينية وسياسية واقتصادية. وليست القضية في هذا المشهد مجرد “تصريح صامت ومتحرك” فحسب أدلى به “ابن العراق” مُعرباً عن موقفه من احتلال بلاده وما نتج عن الاحتلال من تداعيات، بل انه محتقنٌ برمزيات تعبر عن حركة التاريخ برمته.
لننظر أولاً الى اسم الصحفي العراقي الشاب “منتظر الزيدي”، فهل جاء الاسم من فراغ؟ إنه مثقل بالعلامات والرموز التي تحكي ثقافة مجتمع عاش في العراق عبر تاريخه العريق. فالاسم “منتظر” مشتق لغوياً من الانتظار والترقب على أمل أن يأتي الفرج، وما قصة العراق في العصر الحديث إلا ذلك الترقب والانتظار والأمل بغد جديد. والاسم أيضاً لا يمكننا فصله عن حمولاته التاريخية الدينية الطائفية، فهو بلا شك يحيلنا على “الامام المهدي” المنتظر، وما يعنيه من ابعاد دينية ثقافية سياسية لدى الطائفة الشيعية الكريمة. بل بامكاننا أن نبحر أبعد من ذلك الى الميثولوجيا الفارسية القديمة (أي الزردشتية) التي أعاد الاسلام تشكيل نفسه في أحضانها حين دخل الى بلاد فارس، ففي هذه الميثولوجيا يأتي مُخلّص (او نبي) كل ألف عام ليحارب “الشر”، ولكن يبقى هذا الصراع قائماً حتى يأتي المخلص الثاني عشر لينتصر “الخير” أخيرا على “الشر”. أليسَ الإمام المهدي هو الإمام الثاني عشر في فكر الشيعة الاثني-عشرية؟ إن ثنائية الخير والشر والصراع بينهما انتقلت، حسب علماء الأديان والميثولوجيا، من الزردشتية الى ديانات الشرق، ومنها اليهودية والمسيحية والاسلام. والرئيس بوش نهل من هذه الأديان.
وإن كان اسم الصحفي “منتظر” يحاكي “الإمام المهدي” فإن اسم العائلة “الزيدي” يحيلنا على رمزية أخرى يحتار المرء حين يحسبها مجرد مصادفة! فالاسم “الزيدي” مشتق من “زيد” وهو نسب له. و”زيد” يحيلنا على “زيد الشهيد” ابن الامام “زين العابدين” الامام الرابع لدى “الشيعة الاثني-عشرية”، وزيد هو إمام “الشيعة الزيدية” الذي خرج على الخليفة الأموي “هشام بن عبدالملك” للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف في وجه طغيان دولة بني أمية، في حين أن الامام السادس من أئمة الاثني-عشرية “جعفر الصادق” لم يخرج معه. وهذا بالضبط ما يُحيلنا عليه المشهد من تمرد الصحفي “منتظر الزيدي” في وجه رئيس الحكومة “المالكي” الشيعي وما يمثله من تيار شيعي عريض هادن الوجود الأمريكي في العراق.
وفي الطرف الآخر من المشهد نرى جدلية “الخير والشر” ولكنها بعكس “الخير والشر” في مستوى منتظر الزيدي، ففي الطرف الآخر يمثل الرئيس بوش جانب “الخير” الذي يحارب “الشر”، وهذا الجانب من “الخير” يتلقى وحياً من السماء حسب تصريحات الرئيس نفسه. وفي المشهد ككل صراع أفكار ومعتقدات، وإن كان كل من طرفي المشهد يؤكد على حتمية انتصار “الخير” على “الشر”، ولكن لكل منهما “خيره” الذي يفهمه بطريقته الخاصة، وكأننا أمام “صورة” و”سالب الصورة او النيغاتيف”. إننا أمام ثنائية زرادشت التي تأبى الأفول ما دام هناك “شر” في هذا العالم.
وهناك “الحذاء” ورمزيته عبر الثقافات والاديان، وعلينا أن نتذكر أن سفر الخروج من الكتاب المقدس يؤكد لنا على التناقض المبدئي والعملي بين “الطهارة” و”النجاسة” وما تحملاه من ايحاءات التناقض بين عالم “القداسة” و”الدناءة” وبين “الخير” و”الشر”، ففي حكاية سفر الخروج حين يظهر الإله “يهوه” على شكل نار في شجرة العليق يحاول النبي موسى عليه السلام الاقتراب من الشجرة المحترقة، فينهره الإله يهوه ويطلب منه عدم الاقتراب دون أن يخلع حذاءه لأنه في موقع مقدس حيث يتجلّى الرب. وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم في سورة “طه 12” (إني أنا ربك فاخلع نعليك انك بالوادِ المقدس طوى). هذا التناقض بين العالم القدسي الطاهر والعالم الدنيوي النجس نجده في العهد الجديد من الكتاب المقدس حيث تهرب الارواح النجسة بمجرد اقتراب السيد المسيح عليه السلام من الشخص المريض. والحذاء اصبح رمزاً لعالم النجاسة، وما زال المسلمون يخلعون أحذيتهم عند دخولهم الى المساجد التي ترمز للعالم القدسي الطاهر.
لقد اختار الصحفي منتظر الزيدي حذاءه ليرمي به باتجاه الرئيس بوش ومضيفه السيد المالكي لما يحمله من رمزية لدى ثقافات الشعوب، وكأن صورة هذا الحذاء المقذوف عبارة عن “تصريح” ثقافي سياسي عالمي أ
دلى به الصحفي.. تصريح ليس بحاجة الى ترجمة الى لغات العالم الأخرى، فهذا النوع من “التواصل” أكثر فاعلية من اللغة لأنه مكون من رمزيات تحمل معلومات مفهومه لجميع الناس.
دلى به الصحفي.. تصريح ليس بحاجة الى ترجمة الى لغات العالم الأخرى، فهذا النوع من “التواصل” أكثر فاعلية من اللغة لأنه مكون من رمزيات تحمل معلومات مفهومه لجميع الناس.
القذف بالأحذية، وما يحمله من معنى التصريح السلمي البعيد عن العنف وقصد ايقاع الأذى، ربما يصبح “ثقافة” انسانية يستعملها الانسان المقموع والمقهور ليشهر اعتراضه على القهر والظلم. وإن تم الاعتراض بأن الحذاء المقذوف قد يعرّض الشخص المستهدف للأذى الجسدي، فإن أنصار “القذف بالاحذية” ربما يطوروا طريقة الاحتجاج لتقتصر فقط على “رفع الاحذية” في وجه الظلم والقهر والاستعباد والفساد. وبذلك ستتغير رمزية الحذاء في ثقافة الشعوب، ولن يحمل معاني النجاسة، بل معاني الرفض والاحتجاج. فهل ستنصف الشعوبُ الأحذية؟!
تُرى لو انتشرت ثقافة القذف بالاحذية او رفع الاحذية في الوطن العربي واصبحت ممارسة شعبية ملتزمة للتصريح عن رفض القمع والظلم والقهر والديكتاتورية المقنعة، فماذا سيكون رد الأنظمة العربية ودوائرها المختلفة؟ بالتأكيد ستمنع هذه الأنظمة تصنيع الأحذية واستيرادها، وسنرى مئات الملايين من العرب الحفاة.